كادت أن تلامس تخوم المعجزة، هي قصة لا مكان لها في عالمنا الذي نعرف على الأقل، إلا في مخيال هوليود، وإبداع كُتّابها ومخرجيها، لكن القصة حدثت، في دراما خلّاقة، تحفر في أرض الموت عن الأمل، حدثت في مكان بعيد قريب، يُدعى مخيم الركبان، على الحدود السوريّة الأردنية.
في مخيم الركبان، المُحاصر المُتعب أهله، المنهكين بشقاء مضاعف عمّا يعانيه كثير من النازحين في مخيمات أخرى نُثرت في أرجاء سوريا، هناك لا مستشفى ولا أطباء، والعمليات الجراحية تُجرى في مناطق سيطرة نظام الأسد، ومن يذهب ويعالج فلا يعود، فيروس كورونا أغلق نافذة الضوء الوحيدة، أغلق نقطة “عون” الطبية داخل الحدود الأردنية.
موت وشيك بين فكي المستحيل
نور إبراهيم، مدّرسة في مخيم الركبان، كانت تُدّرس الموسيقا قبل أن يُكتب عليها وعلى عائلتها النزوح والحصار في مخيم الركبان. في أحشائها طفل، لن يُبصر النور إلا بعملية قيصرية، هي بل حياتها وحياة جنينها بين مستحيلين، إمكانية إجراء القيصرية في مخيم الركبان، أو إجراؤها في مناطق سيطرة النظام، وهي رحلة ببطاقة ذهاب فقط، لا عودة منها بعد ذلك إلى زوجها وطفلتيها، وعليه رفضت “نور” الخروج من المخيم، تحت قسوة اختيار شتات جديد، لا عودة منها إلا تهريباً، وهو خيار خطر ومكلف، وفق ما رواه شكري شهاب، مدير المكتب الطبي في مجلس عشائر تدمر والبادية.
وكان القرار
اليوميات العاديّة حتى في أكثر مخيمات النازحين شمالي سوريا شقاء ليست كذلك في مخيم الركبان. اجتمعت العائلة ووجهاء المخيم لاتخاذ قرار، هل تُجرى القيصرية في مخيم الركبان أم لا، فالكادر الطبي المؤلف من ممرضيْن اثنين، وقابلة قانونية شرحوا بوضوح خطورة إجراء عملية قيصيرية في المخيم، وبعد لأي وعناء، اتُخذ القرار، ستُجرى العملية في المخيم، وقدموا موافقة خطيّة تعكس عزمهم على هذا القرار.
العملية المُعجزة
غرفة العمليات ليست إلا سيارة إسعاف، مجهزة بأدوات تكفي لعمليات جراحية بسيطة ليس إلا، ثمة جهاز للإنعاش وآخر للمراقبة، وبدأت مهمة كادر طبي بسيط يُشكل مكتباً طبياً يتبع لمجلس عشائر تدمر والبادية، وعلى الخط، وعبر تطبيق زووم، يُشرف أطباء سوريون على العملية، وهذا أقصى حدود المُتاح.
القابلة القانونية، حسنة المطلق، المشرفة على المريضة وأحد الكوادر الثلاثة المعنيين بإجراء العمل الجراحي، قالت “نور إبراهيم تعرضت لآلام مخاض مفاجئ في الأسبوع الثامن والثلاثين من الحمل، كانت قد أجرت سابقاً عمليتين قيصريتين قبل دخولها المخيم، وهو ما تسبب في “تضيّق في الحوض”، وتبيّن بعد إجراء الفحوصات أن الولادة الطبيعية مستحيلة”.
ساعتان داخل سيارة الإسعاف، وهي مدة القيصرية، ولأول مرة تُمسك يدا قابلة وممرضيْن المبضع لإجراء عمل جراحي بهذا الحجم، يتبعون إرشادات الأطباء، وهم طبيبا جراحة وآخريّن للتخدير، كل ذلك عبر تطبيق زووم، خطوة بخطوة، ماذا لو انقطع الانترنت وهو كثيراً ما يحدث؟
تمر الدقيقة وكأنها الدهر
مرت الثواني ثقيلة على الجميع، ثمة كائن حي وضع ثقته بهذا الفريق، دقيقة وراء أخرى، وكان العمل الجراحي وفق ما ذكره الممرض “شهاب” يتقدم بنجاح، لم يحدث أي اختلاط طبي، وكانت الإرشادات تصل لحظة بلحظة، إلى أن وصلت اللحظة المأمولة، ولامس جسد الطفل هواء هذا العالم، وكاد الفريق يبكي على بكاء الطفل، فرحاً وأملاً، لكن الأمر لم ينته، العملية مستمرة، والطفل كان يعاني من زرقة في الجسم، استدعت وضعه على جهاز الأكسجين.
قبل هذا العمل الجراحي، ولحاجة المخيم إلى إجراء عمليات جراحية بسيطة، عمل الفريق مع الأطباء تدريبات عن طريق تطبيق زووم، لكن هذا التدريب المحدود وعن بعد، قطعاً لا يُقارن بما يفعله الأطباء طيلة سنوات، حتى يصبحوا أطباء.
حين بكى الطفل فرح المخيم
انتهت العملية، الطفل عادة إليه لونه، ليس هو فقط، بل عادت مع انتهاء العملية الألوان إلى كل ما حوله، الأم بخير، والطفل بخير، وحمل منذ ذلك اليوم اسم “عبد السلام”. عند هذه الحدود يكون للحياة معنى وطعماً آخر، شعر به كل سكان مخيم الركبان.
العشرات خارج سيارة الإسعاف، بين نساء يبكين ويزغردن، ورجال عاد الفرح إلى مُحيّاهم وكثير منهم غادره منذ سنوات. كان مشهداً احتفالياً بالحياة في حي يُعرف بحي “التدامرة” في مخيم الركبان، وُزعت الحلويات، وتحول بيت نور الطيني إلى قبلة سكان المخيم.
ويضيف سكان المخيم ممن قدم شهادته على ذلك اليوم قائلين، كان الجميع فرحاً، ومن فرط الفرح بكى كثيرون، ويعلق أحدهم: تحولت “نور وعبد السلام” إلى جرعة أمل كاد أن يجف في عروقنا وقلوبنا.
نور على نور
كانت مدرسة موسيقا سابقا، وحين نزحت إلى المخيم تطوعت لتعليم الأطفال هنا، دون مقابل مادي، غمرتهم بالعطاء والحب، ورُدّ إليّ أضعافا مضاعفة، حبا واهتماما ووقفة لا تُنسى، كما تروي “نور إبراهيم” مضيفة: ” كنت ميّتة، وعدت إلى الحياة، كاد القهر يخنقني حين كنت أمام خيارين، خسارة الجنين أو خسارة ابنتي وعائلتي، لكن الله منّ علينا، وجاء إسماعيل، مسّرة وسنداً لشقيقتيه، ولنا”.
باتت نور إبراهيم، وابنها عبد السلام، عنوان أمل في مخيم الركبان، وأبطال قصة أول عمل جراحي، هما والكادر الطبي إما في الميدان أو عن بعد، لكن هذه السعادة، ثمة غيمة لا تتزحزح، تحكي عن “مأساة” قد تنحدر إلى قاع “الجريمة”، عن الأطراف التي تحرم عشرات الآلاف من إجراء عمليات جراحية بسيطة، كثير منهم يفضلون أن تفتك بهم أمراضهم على خيار إجراء عمل جراحي، وهي مأساة، أقسى ما فيها أن أطرافها ليسوا أنظمة وحكومات فقط، بل “منظمات إنسانية”.