فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

محلات لبيع النرجيلة -إنترنيت

  رحلة النرجيلة محطات بين السر والعلن

 محمود يوسف السويد

بعض الأمور لا تبقى على حالها ينسل خالد نحو شرفة منزله مساء كل يوم.  يحمل في يده رأس نرجيلة مصنوع من الفخار، وفي اليد الأخرى منقلاً صغيراً بجمر مشتعل. يملأ […]

بعض الأمور لا تبقى على حالها

ينسل خالد نحو شرفة منزله مساء كل يوم.  يحمل في يده رأس نرجيلة مصنوع من الفخار، وفي اليد الأخرى منقلاً صغيراً بجمر مشتعل.

يملأ رأس النارجيلة بـ “تنباك عجمي” بلله بالماء وعصره جيداً ليشكله بما يشبه الهرم. ويصنع وسطه ثقباً بسيخ شواء رفيع، بهذا يصبح نفس الأركيلة جاهزاً لتبدأ رحلة استمتاعه اليومية بتدخين النارجيلة وشرب ركوة من القهوة الوسط، وهو يجلس على شرفته المطلة على شارع العباسيين بالقرب من الملعب كرة القدم الشهير، يراقب السيارات ومشهد الفتيات وهن يذهبن للتسوق من محلات القصاع وبرج الروس القريبة.

يتأمل عمود نارجيلته الخشبي المصنوع من شجر المشمش الدمشقي ورأسها الفخاري المتوهج ببصيص الفحمات وحوجلتها الزجاجية المملؤة بالماء. وصوت القرقعة الذي يصدر عن تلك المياه، كلما سحب خالد الدخان من خرطومها الأحمر المصنوع من المطاط تزينه كرات صغيرة من الخيطان.

صوت قرقعة المياه يشكل مصدر إزعاج لأخته ناديا التي تجلس في الغرفة المطلة على الشرفة، وهي تراجع دروسها، لكنها لا تجرؤ على انتقاده “فمدلل أمه” كما تصفه لا يرفض له طلب، هو “آخر العنقود” ولا يحق لأحد تعكير صفوه، وإلا سيواجه سخط الوالدة الذي أخذت دور الاب والأم معا بعد أن بات زوجها طريح الفراش “لفالج” أصابه منذ سنتين، ما منح خالدا ابن السادسة عشر، فرصة ليظهر “رجولته” ويمارس هواياته دونما رقيب.

صديقه عدنان كان يزوره أحياناً، ليشاركه جلساته تلك، لكن دون أن يشاركه النارجيلة. فلعدنان نارجيلة خاصة ترافقه في سهراته. هو لا يود مشاركة الآخرين بها، ويراها أمراً خصوصياً يشبه السيجارة عند المدخنين، كما يقول.

خالد هو الآخر يفكر بذات الطريقة، لكن ذلك تبدل بعد أعوام قليلة، حين تكنى بأبي فادي، وبدأت أم فادي تشاركه النارجيلة خلال سهرهم داخل المنزل لوحدهما، برفقة فنجان القهوة المعتاد و”جاط” الفاكهة وتشكيلة الموالح.

تغير أيضا شكل النارجيلة، حيث حل النحاس المرصع بالماسات الزجاجية التي تتدلى حول صحنها ورقبتها مكان الخشب، واستبدل التنباك العجمي، بالمعسل المخلوط بنكهات متعددة لا يمكن حصرها.

خالد يفضل نكهة التفاح، في حين زوجته ترى بالنعناع نكهة مميزة، فلكل ذائقته الخاصة، ويبدو أن المصنعين أدركوا هذا الاختلاف، فصنعوا لاحقا معسلاً بكل النكهات التي تخطر بالبال، وأحيانا لا تخطر، فمن كان يعتقد أن سيرى معسلا بنكهة الكاكاو أو الشوكولا، أو حتى بنكهة القشطة مضافاً إليها أي فاكهة أخرى.

جوزة هند وقصبة كانت البداية

عندما قام “عبد الفتح الجيلاني” طبيب السلطان المغولي “أكبر” في القرن الخامس عشر، بتقديم أول نسخة للنارجيلة لـ “أكبر” صنعها من جوزة الهند بعد ملئها بالماء، جاعلاً فيها ثقبين واحد لرأس الدخان والآخر توضع فيه قصبة يشفط الدخان من خلالها، ظناً منه أن الماء سيخفف من مضار الدخان على السلطان، وذلك بحسب أشهر الروايات.

لم يخطر في بال الحكيم وقتها، أن اختراعه هذا سيلقى رواجاً عالمياً وستنتقل جوزته تلك لتجوب بلاد فارس المجاورة، وتسمى “بالنرجيلة” الاسم الفارسي لحبة جوز الهند، وتستبدل الجوزة بحوجلة من الزجاج راح صانعوها يتفننون بتشكيلها وبرسومها الملونة والمزركشة. من بلاد فارس انتقلت لبلادنا العربية في فترة الحكم العثماني، لتدعى “نرجيلة” وبالعامية أركيلة، وعبر بوابة أسيا الصغرى تتابع النارجيلة مسيرة انتشارها لتصل البلدان الأوربية وتبقى فيها حتى يومنا هذا ويكثر مدخنوها.

نرجيلة بشكل بندقية في المعرض -إنترنيت
نرجيلة بشكل بندقية في المعرض -إنترنيت

الزائر للمعرض العالمي للنرجيلة وملحقاتها والذي أقيم في فرانكفورت منذ فترة ليست بالبعيدة، سيفاجأ بالتنوع الكبير في أشكال النرجيلة. هو لن يشاهد جوزات هند يتفرع منها قصبة، سيرى ألواناً واحجاماً متنوعة، هناك الطويلة تقف بجانب أخرى تناهت في قصرها وصغر حجمها. أخرى أخذت شكل بندقية ألية يتفرع الخرطوم من مخزنها، ونموذج آخر يشبه مصافي الزيت في السيارات دون إضافة الماء لها، “نراجيل” بألوان وردية تناسب الفتيات، حتى ورق القصدير المستخدم في التخفيف من حرارة ووهج الفحم كي لا يحترق المعسل بسرعة، بعض النماذج استغنت عنه عبر اختراع شبكة خاصة تغطي رأس المعسل وعليها يوضع الفحم المشتعل.

تقاليد باتت عرفاً

ما يزال أحمد يذكر تلك اللكمة التي تلقاها على فكه في أحد المقاهي. كل ما أراده وقتها أن يشعل سيجارته من جمر نرجيلة مجموعة من الشباب الجالسين على الطاولة القريبة من مكان طاولته.

لم يعلم حينها حجم الخطأ الذي ارتكبه ليكتشف بعدها أن إشعال سيجارة من جمرات نرجيلة أحدهم يعد بعرف مدخنيها إهانة تصل حد الشتيمة.

أبو حازم يصر أن يمازح صديق عمره خلال جلوسهم في المقهى، عبر تمرير خرطوم النرجيلة له دون ثنيه كما جرت العادة، وهي أيضا حركة غير مستحبة لدى مدخني النرجيلة، لهذا يمسك صديقه عبد العليم بالخرطوم دون ان يربت على كف زميله ثلاثاً، وهي عادة أخرى ضمن طقوس المدخنين. لكن تلك العادات تطورت بفعل الزمن كحال تطور النرجيلة، وتبدلت مع تبدل مجتمع المدخنين اليوم ونظرتهم للنرجيلة.

متعة أم حاجة

تمر أسابيع على محمد خير دون إن يتذوق “نفساً” واحداً من نرجيلته، هو الذي تعود أن يتناولها بشكل شبه يومي في حديقة منزله بالغوطة الشرقية، كان ذلك قبل نزوحهم نحو الشمال، اليوم ما عاد يجد متعة في تدخينها، فالنرجيلة برأيه تتطلب الجو المناسب والحالة النفسية الجيدة وهو ما يفتقد إليه في غربته ونزوحه.

يصر حسن أن ترافقه النرجيلة أينما حل، يحملها حتى إلى مكان عمله رغم معارضة إدارته وتنبيهه عليها مراراً، لكنه في كل مرة يحتج أنها شأن شخصي ولا يقدر على تركها، محتجاً بسماح الإدارة لزملائه مدخني السيجارة بالتدخين، لكنه أخيراً اقتنع بتدخينها في غرفة الاستراحة وقت فراغه من عمله، بما يمثل حلاً وسطاً.

بين المباح والمتاح

أم فادي التي تعودت ان يشاركها زوجها خالد النرجيلة، في سهراتهم المنزلية، أصبحت تدخنها حتى في غياب زوجها خارج المنزل، أحيانا تجهزها مع القهوة الصباحية وفي جلسات الصبحية برفقة صديقاتها من الجارات. تحسدها جارتها أم حسن التي لا تجرؤ على الطلب من زوجها السماح لها بمشاركته نرجيلته رغم أنها هي من تعدها له في المساء، وتشغل له “النفس” في البداية، ما جعل منها مدخنة منتظمة كزوجها، تنتظر مغادرته في الصباح إلى عمله لتعد نرجيلتها الخاصة بها.

أم علي اختارت خزانة ملابسها لتخفي علبة المعسل خاصتها، فهي تعلمت درسها حينما أخفت العلبة السابقة بين أكياس المنظفات في خزائن المطبخ، لتتحول نكهة المعسل لما يشبه الصابون، لا يهم المهم ألا يعلم زوجها بأمر استخدامها لنرجيلته في غيابه.

ما زالت أميرة من ريف دمشق تذكر كيف كانت تراقب والدتها تدخن النارجيلة في جلساتها، في حين ترفض جدتها أم محمود أن تشاركهن “برغم أننا جميعنا نعلم أنها تدخنها، أظن أنه الخوف على وقارها وهيبتها أمامنا”.

أشكال مختلفة من النرجيلة -إنترنيت
أشكال مختلفة من النرجيلة -إنترنيت

في أحد المقاهي القريبة من محطة الحجاز بدمشق، يجلس حسام كل في كل يوم ليشرب قهوته. أمام نداء الزبائن لعامل النرجيلة “ناره يا ولد” يضج المقهى بالصراخ، يقول إن ذلك يعني تجديد فحم نرجيلته من جديد، جلب الصبي “الشعالة” بداخلها العديد من الجمرات الملتهبة ليعيد بواسطتها توهج رأس نرجيلة الزبون المنهمك بلعب طاولة الزهر مع أحد رفاقه.

ويروي حسام أن رواد القهوة كانوا جميعهم من الرجال “ما كنت ترى سيدة تأتي إلى المقهى، فهو أمر معيب بنظر المجتمع في تلك الفترة”، من ثم وجدت “الهافانا” في دمشق، ومقهى “خيزران” و “الأريكة” في حلب، ما منح روادها حيزاً أكبر من الخصوصية عبر تخصيصها أمكنة للعائلات.

ومع زيادة عدد المقاهي وتنوعها لم تعد النرجيلة في الأماكن العامة حكراً على الرجال فقط. وبات مألوفاً مشاهدة النساء يدخن النرجيلة في المقاهي والمطاعم. لكن هذه المظاهر تغيب عن مقاهي إدلب اليوم لأسباب عديدة، يرجعها بعضهن للعادات والتقاليد التي تمنع النساء من تدخين النرجيلة وما يلاحقها من نظرات استهجان.

كذلك من شعور بعض السيدات المدخنات للنارجيلة بعدم الخصوصية، تقول أم فادي إنها ترفض تدخينها أمام رجل غير زوجها، حتى لو كان شقيقه أو شقيقها فكيف بالغريب. وتصف “بالسخافة” و “السطحية” أولئك الفتيات اللواتي يسعين اليوم للظهور عبر برامج التواصل الاجتماعي وهن يدخن النرجيلة ويصعدن الدخان كما الرجال.

تخالف نسرين ما تقوله أم فادي وترى أن “النرجيلة ليست مخصصة للرجال وإن كان في تدخينها من عيب فيجب أن يشمل الجميع”، وتتساءل عن سبب سماح المجتمع للرجال بتدخينها دون ضوابط مقابل ما يفرض على النساء.

وترجع نسرين سبب عدم وجودها في إدلب لمنعها من قبل “سلطة الأمر الواقع”. لكنها تعرف كثيراً من رفيقاتها اللواتي يدخن النرجيلة بحضور أهلهن وأزواجهن ولا يجدن في ذلك حرجاً، وهو ما اعتبرته “خصوصية على الجميع احترامها”.

وتروي نسرين أن قرى إدلب لم تصلها النرجيلة سواء للذكور أو الإناث إلا من عقود قريبة، كما تخلو معظمها من مقاهٍ عامة. ولكنها تستشهد بـ “كبيرات السن” المدخنات في القرى وأنهن كن يدخن أمام الجميع، فما الفارق إذن؟

يبدو الأمر سجالاً بين العرف والإباحة، إذ يرى رجال تحدثنا معهم في تدخين النرجيلة من قبل النساء أمراً مستهجناً خاصة في الأماكن العامة، ويقول أيمن إن المرة الأولى التي رأى فيها مشهد نساء يدخن النرجيلة كان في حلب خلال رحلة تسجيله في الجامعة واصفاً المشهد بأنه أثار “حفيظته واستغرابه”.

ويدافع آخرون عن “حرية النساء بتدخين النرجيلة” ولا يفرقون في هذه الحالة بين السر والعلن، ويرون أن “الزمن قد تغير” وأن “التقاليد كانت تمنع النساء سابقاً من العمل والتعليم وقيادة السيارات.. وقد تغيرت هذه المفاهيم اليوم، فلماذا علينا أن نمنعهن ما نقوم به”.