ما تزال تفاصيل مجزرة كيماوي الغوطة محفورةً في أذهان كل شخصٍ حضر تلك الليلة الكارثية، ففظاعة ما شاهده الأهالي يومها، يجعل من الصعب عليهم نسيان أي تفصيلٍ عاشوه، لدرجة أن البعض لا يصدق حتى الآن ما جرى، ويظنه مجرد كابوسٍ مخيف استيقظ منه وظلت تفاصيله عالقةً في المخيلة.
قساوة المشاهد التي خلّفها هجوم الأسد الكيماوي في آب 2013، سبّب أزماتٍ نفسية لسكان الغوطة ولاسيما الأطفال، اختلفت حدتها من شخصٍ لآخر، ما دفع كثيراً منهم لزيارة الأطباء النفسيين ومراكز الدعم والتأهيل، بينما حالت بعض العقبات دون قدرة آخرين على الخضوع لجلساتِ دعمٍ نفسي، ليتأزّم وضعهم يوماً بعد يوم.
مشاهدٌ دمرت نفوس أهل الغوطة
زياد هندية طفل مهجّر من الغوطة، دخل في أزمةٍ نفسية منذ استهداف قوات النظام لبلدته عربين بصواريخٍ تحوي غازاتٍ سامة في 2013، أدت لمقتل والده وأخوته الثلاثة، بينما نجا هو وأمه فقط، لتتفاقم حالته يوماً بعد يوم.
تقول أم زياد: “حين حصلت مجزرة الكيماوي كان زياد في السادسة من عمره، يومها تم إسعافنا جميعاً الى المشفى، وحين استيقظت أنا وزياد من الغيبوبة بعد أن سكبوا علينا كمياتٍ كبيرة من المياه، وجدت زوجي وأطفالي الثلاثة مستلقين أرضاً والزبد يخرج من أفواههم، صرخت من الفزع . حاولت إيقاظهم لكن دون جدوى، فعلمت حينها أنهم فارقوا الحياة”.
تضيف أم زياد لفوكس حلب: “حين شاهدني زياد أبكي بحرقة، سألني لماذا أبي وأخوتي لا يستيقظون من النوم؟! لم أعرف ما أقول له وضممته لصدري واستمريت بالبكاء. ظلّ زياد بعد تلك الليلة يصرخ في نومه ويتبول لا إرادياً لأكثر من سنتين.
عرضته حينها على مركز دعمٍ نفسي، وبعد جلساتٍ مكثفة تخلص من تلك المشاكل، لكنه ظلّ يعاني من فوبيا الطيران حتى اليوم، حيث تهجّرنا إلى مخيمات أطمة بريف ادلب، وكلما سمع صوت الطائرة يصرخ ويركض إلى أحضاني أو يختبئ داخل الخيمة”.
حالة زياد هندية واحدة من بين آلاف الحالات التي عانت من آثار الحملة الوحشية التي شنّها النظام على الغوطة الشرقية على مدار خمس سنوات، ولم تقتصر تلك الآثار النفسية على الأطفال، بل شملت حتى البالغين.
أحمد سحاري مهجّر من الغوطة ومقيم في ألمانيا، عاش لحظاتٍ قاسية في ليلة الكيماوي، التي شبهها بيوم القيامة، لتبقى تفاصيلها عالقةً في ذهنه وترافقه حتى في منامه، كيف لا وقد فقد كل عائلته أمام أعينه.
يقول سحاري: “كنت عند أصدقائي في بلدة حمورية حين علمت عبر المراصد أن هناك هجوماً كيماوياً استهدف بلدات الغوطة، من بينها بلدتي زملكا، توجهت مسرعاً إلى منزلي فلم أجد أحداً، فتوجهت إلى المشفى الميداني لأجد عشرات الجثث المتناثرة على الأرض بعضها قد فارق الحياة، والبعض الآخر يلفظ أنفاسه الأخيرة”.
يضيف سحاري لفوكس حلب “بعد نصف ساعة من البحث داخل المشفى وجدت زوجتي وطفلي مستلقيين على الأرض وكأنهما أسماكٌ خرجت من الماء وبدأت ترتطم بالأرض وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، صرخت منادياً على الأطباء فلم يستجب لي أحد، حيث كان هناك عددٌ قليلٌ من الأطباء والممرضين يشرفون على مئات المصابين، لم يكن هناك حتى أي جهاز تنفس متوفر لاستخدامه كإسعاف أولي، وكان الماء البارد هو الحل الوحيد، لكنه لم يجدِ نفعاً، وبعد دقائق شخصت أعين زوجتي وطفلي وفارقا الحياة بين يديّ”.
انهارت أعصابي وفقدت الوعي حينها، وفي الصباح كان لا بد من الاستسلام لهذا الواقع المرير، حيث دفنت جثتي عائلتي، كانوا شهداء بلا دماء. ما حصل في ليلة كيماوي الغوطة ظلّ كابوساً يرافقني حتى اليوم. فكرت كثيراً بالانتحار بعد أن أصبت بحالة اكتئابٍ شديدة، لكن إيماني بالله منعني منذ ذلك، وفق ما ذكر سحاري.
اضطرابات نفسية متعددة أرهقت الأطفال
بدأت المشاكل النفسية تظهر لدى سكان الغوطة، مع تصاعد القصف على منطقتهم، وأهم آثارها (فوبيا الطيران)، وهو ناتج عن الخوف الشديد من القصف الجوي والذي يترافق عادة مع صوت الطائرة القوي.
يقول الاستشاري النفسي خالد رومية من مهجّري الغوطة إن “القصف العنيف وظروف الحصار التي تعرض لها سكان الغوطة، إضافةً إلى المشهد الأفظع مجزرة الكيماوي في 2013، خلقت حالاتٍ من الاضطراب النفسي والسلوكي بشكل متسارعٍ لدى الكثير منهم ولاسيما الأطفال، وتحوّل بعضها لأمراض نفسية نتج عنها أمراض عضوية، ما زاد الوضع سوءً”.
وأضاف رومية “يصاب الشخص بآثار نفسية مؤقتة، نتيجة تعرضه لجرعاتٍ عالية من القصف والعنف ومشاهدة الدم والموت، لكن تكرار التعرّض لجرعات الصدمة أو العنف، يزيد من احتمالية استمرارها لفترة أطول، ما يشكل بدايةً لحدوثِ مرض نفسي”.
وتابع رومية قائلاً: “كما تسببت مشاهد القصف والجثث، في آثارٍ نفسية أخرى، منها التبول اللاإرادي، والعرات وهي عدم القدرة على التحكم بحركات الوجه واليدين، إضافةً إلى الخوف والتوتر والارتباك واضطرابات النوم وسوء التركيز والهلوسة”.
بدوره قال الصحفي غياث الذهبي من أبناء الغوطة: “ليلة 21 آب 2013 لن ينساها أي شخص من أهالي الغوطة، وبات لديهم حالة رعب من مجرد سماع كلمة كيماوي، حيث شاهدوا آلاف المصابين ومئات القتلى أمام أعينهم، وهناك من فقد كامل أفراد عائلته وأصيب بصدمةٍ نفسيةٍ شديدة استمرت معه لفترة طويلة”، مضيفاً أن “حالة الرعب التي أصابت الناس بعد تلك المجزرة، دفعت الكثير منهم لبيع كل ما يملك للخروج من الغوطة خوفاً من تكرار الهجوم الكيماوي، لدرجة أن حوالي مئتي ألف شخص تقريباً خرجوا خلال عشرين يوم بعد تلك الفاجعة”.
معوقات فاقمت الأزمات النفسية
فظاعة ما عاشه الأهالي ليلة كيماوي الغوطة، تسبّب بإصابة أغلبهم بأزماتٍ نفسية، وبالتالي كانوا بحاجةٍ للخضوع لجلسات علاجٍ نفسي، إلا أن معوقاتٍ كثيرة حالت دون ذلك، ولاسيما الحصار وضيق الواقع الاقتصادي للسكان، وقلة المختصين النفسيين داخل الغوطة، وعدم قدرة الأهالي على العلاج في مشافي العاصمة.
وقال الاستشاري النفسي خالد رومية: إن “معظم من كانوا يعانون من مشاكل نفسية لم يراجعوا مراكز الدعم النفسي خوفاً من نظرة المجتمع، إضافةً الى ندرة الأدوية وارتفاع أسعارها في ظل الحصار، كما أن البعض لجأ للخضوع لجلسات نفسية عبر السكايب مع مختصين نفسيين في الخارج تطوعوا لتقديم الدعم لأهالي الغوطة، لكن ضعف شبكة الانترنت كان يحول دون إتمام تلك الجلسات”.
ولم يكتفِ الأسد بمجزرة الغوطة في 2013، بل استمر عقب ذلك في زيادة الحصار والتصعيد العسكري على مدار خمس سنوات، ما اضطر السكان للجوء للأقبية التي كان أغلبها غير مجهزة ومظلمة، وبالتالي تسبّب المكوث الطويل فيها، بزيادة الكآبة والمشاكل النفسية لديهم.
وعملت بعض السيدات حينها على إطلاق مبادرات فردية ضمن الأقبية التي تحوّلت لملاجئ وخاصةً في بداية 2018، وذلك بهدف إخراج الأطفال من الخوف الذي يُسيّطر عليهم، ومحاولة إشغالهم بأشياء مفيدة، ولاسيما بعد توقف المدارس.
وقالت المدرسة غيداء بحري من مهجري الغوطة: “قامت بعض المدرسات بعدة نشاطات، بغية تخفيف الضغط النفسي عن الأطفال المتواجدين داخل الأقبية ومحاولة إشغالهم عن المحيط الخارجي، عبر تنظيم المسابقات والألعاب وحكاية القصص المسلية وتعليمهم القراءة وبعض الأشياء المفيدة”، مشيرةً إلى أن “تلك المبادرات الفردية كانت مهمة لإخراج الأطفال من جو الضغط النفسي، لكنها لم تكن كافية خاصةً لمن كانوا يعانون أصلاً من أزماتٍ نفسيةٍ معّقدة، تفاقمت أكثر في ظل افتقار أغلب مراكز الدعم النفسي في الغوطة خلال الحصار للكوادر المؤهلة القادرة على التعامل مع اضطرابات الأطفال”.
وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وثقت مقتل 1127 شخصاً بينهم 107 طفل و201 امرأة وإصابة 5935 آخرين، نتيجة مجزرة كيماوي الغوطة والتي نفذتها قوات النظام ليلة الحادي والعشرين من آب عام 2013، بعد أن قصفت بالصواريخ المحملة بغاز السارين، بلدات زملكا وعين ترما وكفر بطنا وعربين في الغوطة الشرقية، ومعضمية الشام في الغوطة الغربية.