فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

ارتفاع أسعار القبور في دمشق -إنترنيت

القبور في دمشق بملايين الليرات وكورونا يُغيّر طقوس الدفن

هاني العبدالله

“فوق الموتة عصّة قبر”، عبارة اعتاد السوريون على تداولها للدلالة على تضاعف المعاناة، إلا أنها لم تعد تكفي لوصف حال كثيرٍ من الموتى، الذين لم يكن لهم حتى قبرٌ ليرقدوا به بعد رحلة العذاب قبل الموت، فلطالما كان تأمين قبور في دمشق مشكلة للسكان لسنواتٍ طويلة، لتزداد المأساة أكثر مع انتشار فيروس كورونا، الذي جعل أسعار القبور تحلّق عالياً، وحرم ذوي الموتى من طقوس الدفن

“فوق الموتة عصّة قبر”، عبارة اعتاد السوريون على تداولها للدلالة على تضاعف المعاناة، إلا أنها لم تعد تكفي لوصف حال كثيرٍ من الموتى، الذين لم يكن لهم حتى قبرٌ ليرقدوا به بعد رحلة العذاب قبل الموت، فلطالما كان تأمين قبور في دمشق مشكلة للسكان لسنواتٍ طويلة، لتزداد المأساة أكثر مع انتشار فيروس كورونا، الذي جعل أسعار القبور تحلّق عالياً، وحرم ذوي الموتى من طقوس الدفن.

مع تصاعد الحرب في سوربا زادت حالات الوفيات، لتكتظ المقابر ولا سيما في دمشق التي شهدت مقابرها اختناقاً شديداً، ما تسبّب في ارتفاع أسعار القبور لأرقامٍ خياليةٍ، وتحوّل الموت فيها إلى تجارة بيد ضعاف النفوس، ما دفع السكان للتفتيش عن حلولٍ بديلةٍ، بعدما أصبح ايجاد مكان لدفن الموتى أصعب من تأمين مكان يؤوي الأحياء.

وتفاقمت أزمة القبور أكثر مع تفشي فيروس كورونا في مناطق النظام وزيادة حالات الوفيات، وتداول ناشطون قبل أيام على مواقع التواصل الاجتماعي، صورةً تُظهر ازدحاماً كبيراً أمام مكتب دفن الموتى بدمشق، ما أثار موجةً من التساؤلات عن أعداد الوفيات بكورونا.

تجارة الموت وبورصة القبور

موقع “فوكس حلب” تواصل مع مصادر داخل المدينة للتعرّف على أسعار القبور، والتي أشارت الى أن سعر القبر في مقبرة الدحداح وسط العاصمة، يتراوح  بين 7-10 ملايين ليرة سورية، في حين يصل سعر القبر في مقبرة باب الصغير ما بين 3-5 مليون ليرة.

ويتراوح سعر القبر في مقبرتي الشيخ رسلان في باب شرقي، والمزة في الشيخ سعد ما بين 2-3 مليون، بينما لا يقل سعر باقي قبور دمشق عن مليون ليرة، ويختلف سعر القبر حسب موقعه وقربه من باب المقبرة أو ساقية المياه، أو مدى تجهيزه ونوعية الرخام فيه، ووجود سجل عقاري له (طابو).

أبو حسان من سكان حي الزاهرة بدمشق فقد شقيقه قبل أيام ليبدأ باجراءات الدفن، والتي وصفها بالمعقّدة والشاقة قائلاً: “بعد أن تلقينا خبر وفاة أخي في أحد المشافي الخاصة بدمشق، ذهبنا الى المشفى لرؤية الفقيد وأخذ شهادة الوفاة، ومن ثم توجهنا الى مكتب دفن الموتى، لتكون الصدمة حين شاهدنا المئات قد تجمهروا هناك، حيث توجد عدة نوافذ كل منها مخصصة لمقبرة من مقابر دمشق، فوقفت في دور النافذة المخصصة لمقبرة باب الصغير، وبعد انتظار لأكثر من ثلاث ساعات وصلت الى النافذة، حيث طلب الموظف تقرير الوفاة، وصورة هوية المتوفى وهوية مقدم الطلب وإخراج قيد، إضافةً إلى الطلب الذي يتضمن رقم القبر واسم المقبرة، ومعلومات شخصية، ومن آخر متوفى دُفن في القبر ومنذ متى، وما صلة القرابة به، ليتم بعدها إعطاء الموافقة بفتح القبر”.

ارتفاع أسعار القبور في دمشق -إنترنيت
ارتفاع أسعار القبور في دمشق -إنترنيت

ولا يجوز فتح القبر إلا بعد مرور خمس سنوات على دفن الوفية السابقة، ثم يتم دفع الرسوم (40-50 ألف ليرة)، التي يتكفّل بموجبها مكتب دفن الموتى بمراسم الدفن، من غسيلٍ وتكفين وصلاة ونقل الجثة ومن ثم الدفن.

ويمتلك أغلب أهالي دمشق منذ عقودٍ من الزمن قبوراً دُفن فيها أجدادهم وآباؤهم، حيث يتوارث الأبناء والأحفاد القبر ليتم الدفن فيه، بعد مراجعة مكتب دفن الموتى بمحافظة دمشق التابعة للنظام، الذي يمتلك سجلات القبور الموجودة في العاصمة، فكل قبر له رقم يُوضّح صاحب الملكية ومن آخر شخص دُفن فيه.

ويقدم ذوي المتوفى ورقة ملكية القبر، وإخراج قيد يُوضّح صلة القرابة به، وهنا يتأكد مكتب دفن الموتى أن الفقيد هو من الأصول التابعة لورثة القبر، أي الأب أو الأم أو الأخ أو الابن، وأن آخر شخص دُفن في القبر مضى على دفنه أكثر من خمس سنوات، مع العلم أنه كان يجب مضي عشر سنوات سابقاً حتى يُسمح بدفن شخص آخر في القبر، لكن تم تخفيض المدة بسبب الاختناق الشديد في مقابر دمشق خلال السنوات الماضية.

يضيف أبو حسان لفوكس حلب: “بعد أن قدمت كل الأوراق المطلوبة لمكتب دفن الموتى، أخبرني الموظف أن ملكية القبر تعود لشخصٍ آخر، وأنه لا يحق لي دفن أخي فيه، شعرت بصدمة كبيرة حين سمعت بالخبر، وبعد لحظاتٍ استعدت توازني وسألته عن مالك القبر فأخبرني عن اسمه، فعلمت حينها أنه يكون نجل أحد المتوفين الذي استضفناه في القبر قبل خمس سنوات، حيث استغل الابن علاقاته ببعض ضباط النظام، وقام بتزوير أوراق ملكية القبر”.

وتابع أبو حسان: “اضطررت لدفن أخي في مقبرة نجها جنوب دمشق بعيداً عن قبور العائلة، فليس هناك أي قبر شاغر ضمن مقابر العاصمة، وإن وُجد فسعره بملايين الليرات، وبعدما انتهينا من مراسم العزاء سارعت لرفع دعوى قضائية لاستعادة حقي المسلوب”.

وأصدر النظام قراراً مطلع عام 2018 بمنع الاستضافة في القبر للغرباء والذي كان متاحاً سابقاً، وحصر الأمر في الموتى الذين يحملون نفس كنية العائلة (الأصول والفروع)، واتهم ناشطون النظام أنه أصدر هذا القرار لجني أموالٍ طائلةٍ، عبر دفع الناس لشراء القبور التي تقع ضمن ملكية محافظة دمشق.

وكان سابقاً يمكن للورثة الشرعيين للقبر أن يستضيفوا ميتاً في قبر مورثهم، حيث يحضر إلى مكتب دفن الموتى وريثان شرعيان لا يكونان أخوين، ويُوقّعان على تصريح استضافة لمتوفى في قبر مورثهم، وبعد خمس سنوات تعود أحقية القبر إليهم ولا ينتقل حق الدفن إلى ورثة المتوفى المستضاف.

بدورها ذكرت صحيفة “الوطن” الموالية للنظام، أن بعض حرّاس المقابر يرصدون القبر لفترة طويلة للتأكد من انقطاع الزيارات عنه، ليقوموا بعدها بفتح القبر وإزاحة رفات الميت الأول، ومن ثم يعيدون تعميره ليشتريه ذوو الميت الثاني على أنه مدفن جديد، مشيرةً الى أن حرّاس المقابر يبيعون القبور أكثر من مرة.

قبور طابقية

كما أصدرت “محافظة دمشق” قراراً يسمح بانشاء قبور طابقية على ألا تزيد عن ثلاثة طوابق في القبر الواحد، وأصدرت لائحة تضمنت رسوم القبور الطابقية، وقال رياض الأمير (اسم مستعار) من سكان دمشق: إنه “ليس من حق المحافظة أن تتقاضى بدلاً نقدياً عن القبر الطابقي والذي يصل إلى 300 ألف ليرة، طالما أن صاحب القبر الأساسي دفع ثمن القبر مسبقاً، وهذا يعتبر نوعاً من الاحتيال، فالأسد بات يستغل أي شيء لجني الأموال من جيوب المواطنين”.

وأضاف “رغم وجود قرار يمنع صاحب القبر باستضافة الغرباء، إلا أن بعض ضعاف النفوس استغلوا ذلك الأمر لجني الأموال، حيث يقوم صاحب القبر ببيع الطابق الثاني والثالث الذي قام بإنشائه بالتواطؤ مع حارس المقبرة لأي شخٍص غريب، وبما أن عملية بيع القبور غير قانونية لجأ البعض إلى التحايل، حيث يدفع الزبون ثمن القبر لصاحب القبر، ومن ثم يذهب الأخير للمحكمة للتنازل عن القبر للمشتري على أساس أنه تبرع به ولم يتقاضى منه أي مبلغ، وبالتالي يحصل على حكم قضائي، عندها يمكن للمشتري نقل الملكية له في المحافظة”.

مقبرة الفقراء وضحايا الكورونا

ارتفاع أسعار القبور في دمشق، وجّه أنظار كثير من السكان الى مقبرة نجها ضمن منطقة الحسينية بريف دمشق والتي تبعد 13كم عن مركز العاصمة، لتصبح بمثابة مقبرةٍ للفقراء والنازحين، نظراً لانخفاض أسعار القبور فيها مقارنةً بالأسعار الباهظة في مقابر العاصمة.

عمران نازح من مدينة ادلب ومقيم في منطقة دويلعة بدمشق منذ أربع سنوات، فقد والده بعد وفاته بأزمةٍ قلبية، فقرر دفنه في مقبرة نجها، بعد أن علم أن سعر القبر داخل دمشق لا يقل عن مليوني ليرة، بينما بلغت قيمة قبر والده مع اجراءات الدفن 120 ألف ليرة فقط.

وأفاد عمران أن “تراجع المستوى المعيشي لدى السكان دفعهم للاستغناء عن كثيرٍ من طقوس العزاء، ففي السابق كان يتم اقامة وليمة غداء في اليوم الثالث لوفاة الفقيد، لكن تم إلغاء تلك العادة، بعدما وصل سعر كيلو اللحم لـ 15 ألف ليرة، فلم يعد لذوي المتوفى القدرة على تقديم الصفيحة ولحم بعجين والحلويات، واقتصر الأمر على تقديم القهوة المرّة في خيمة العزاء، إضافةً الى لجوء الكثيرين لنشر خبر الوفاة على مواقع التواصل الاجتماعي بدلاً من طباعة النعاوي التي أصبحت مكلفة أيضاً”.

ومع انتشار فيروس كورونا، لم تعد مقبرة نجها للفقراء فقط، بل أصبحت مخصصةً لدفن الوفيات بسبب ذلك الوباء، عبدو فقد والدته قبل أيام بعد صراع لأكثر من أربعين يوماً مع فيروس كورونا، ليتجه مسرعاً مع أخوته الى المشفى لرؤية والدتهم والبدء باجراءات الدفن، لكن موظفي المشفى أخبروهم أنه يمنع منعاً باتاً رؤية جثة المتوفى تطبيقاً لتعليمات وزارة الصحة في حكومة النظام، ليقول: “اضطررت لدفع رشوى قدرها عشرة آلاف ليرة حتى سُمح لنا برؤية والدتي عن بعد”.

وأضاف عبدو “انتشار كورونا زاد أوجاع ذوي المتوفى، فلم يعد يُسمح لهم برؤية فقيدهم أو تغسيله أو الصلاة عليه في المسجد، وإنما يتكفل فريق من مكتب دفن الموتى بتكفين الجثة فقط دون تغسيلها، ونقلها مباشرةً الى المقبرة، حيث يقوم الحفّار بفتح القبر واخراج رفات المتوفى السابق ووضعها ضمن حفرة جانبية في القبر وردمها بالتراب، ومن ثم وضع جثة المتوفى الجديد”.

وتضم مدينة دمشق 33 مقبرة تحتوي على حوالي 130 ألف قبر، والتي امتلأت معظمها ولاسيما المقابر وسط المدينة كمقبرة الدحداح وباب الصغير والمزة، وبالتالي بات دفن المتوفى مشكلة حقيقية، ولاسيما أن سكان دمشق الأصليين يُصرّون على دفن موتاهم داخل العاصمة، ويعتبرن أن دفنهم بعيداً عن مقابر العائلة يعد منافياً للعادات والتقاليد ويُسيء لحرمة الميت.