لا تغيب أصوات التفجيرات المستخدمة في استخراج مواد البناء من مقالع الحجر عن ريف إدلب الشمالي.
الغبار الأبيض المنتشر في الأجواء ينقل معه العديد من الأمراض التنفسية والصدرية، والصخور الناجمة عن التفجير تتحول إلى شظايا تسبب خطراً على حياة الأهالي والنازحين في المخيمات المنشأة في المنطقة
ويستثمر أصحاب رؤوس الأموال بـ “مقالع الحجر” التي تستخرج مواد البناء من حجارة ورمل، مستفيدين من سلسلة التلال والهضاب التي تشكل بيئة مناسبة لهذه الأعمال، ما أسهم بزيادتها في السنتين الأخيرتين ليزيد عددها عن عشرات المقالع، متجاهلين ما يمكن أن تسببه من مخاطر على البيئة والأهالي المقيمين في المنطقة التي تشهد اكتظاظاً سكانياً بفعل النزوح والمخيمات.
أضرار على الصحة
ينتشر نحو خمسين مقلعاً صخرياً في منطقة أطمة وسرمدا وأرمناز وكفرتخاريم وحارم، وتحتل بلدة دير حسان المرتبة الأولى بوجود نحو خمسة وعشرين مقلعاً فيها.
يقلق عمل مقالع الحجر، خاصة القريبة من أماكن السكن، حياة الأهالي في المنطقة، بسبب الأصوات العالية والمخاطر الناجمة عن التفجيرات والحجارة المتساقطة على خيامهم، يقول أبو أحمد “نازح في مخيمات سرمدا” إن أصوات عمل المقالع المجاورة للمخيم تستمر طوال اليوم، ما يسبب رعباً للأطفال، كذلك الحجارة المتطايرة خلال التفجيرات والتي تصل أحياناً إلى داخل الخيام، والغبار الكثيف الناتج عنها.
يخبرنا أبو أحمد أن الأهالي قاموا بإبلاغ المسؤولين عن المخيم بالمخاطر التي يعيشونها وخوفهم من وجودها بقرب أماكن سكنهم، لكن دون جدوى، فما تزال المقالع الصخرية مستمرة بأعمالها الاعتيادية.
ويتخوف الأهالي من انفجار المواد الخاصة بعمل المقالع نتيجة حرارة الشمس المرتفعة ما يؤثر على سلامتهم الشخصية، كما حدث في قرية “باتنته” بريف إدلب الشمالي، في السادس عشر من حزيران الماضي، إذ أصيب ثلاثة وعشرون مدنياً بحروق، بعضهم في حالة خطرة، نتيجة انفجار في هذه المواد في أحد المقالع، بحسب الدفاع المدني في إدلب.
في حين يشكل الغبار الناجم عن عمل المقالع معاناة إضافية للأهالي في فصل الصيف، فالطقس الحار يمنعهم من إغلاق النوافذ لمنع دخول الأتربة إلى منازلهم ما فرض عليهم استنشاقه ضمن المنازل وخارجها. يقول مهدي العمر: إن النظارة الشمسية باتت رفيقاً دائماً له أثناء تنقله على دراجته النارية، فهي تشكل حماية جيدة للعين من الأتربة التي تملأ الأجواء بشكل مستمر.
ويترك الغبار الناجم عن المقالع الصخرية أثره السلبي على الجهاز التنفسي، بحسب الطبيب أحمد العلي (اختصاصي الأمراض الصدرية والتنفسية) والذي قال إن استنشاق الغبار لفترات طويلة يتسبب بالتهاب الأغشية المخاطية في الأنف، كما يتسبب بانسداد جزئي فيه، وآلام في الصدر وضيق في التنفس وخاصة عند أصحاب الأمراض المزمنة مثل مرضى الربو ومرضى القلب والشرايين، حيث تزداد زياراتهم للعيادات الصدرية خلال هذه الفترة من السنة، ويشكو غالبهم من نفس الأعراض نتيجة إقامتهم في المناطق القريبة من المقالع.
ضرر المقالع والتفجيرات العشوائية على أحواض المياه
يؤثر الانتشار العشوائي لمقالع الصخر على طبقات الأرض، إذ تتأثر الطبقات بالتفجيرات التي تتم ضمن المقالع ما يؤدي لتفكك الطبقات الصخرية وانسلاخ بعضها وينتج عن هذه العملية تصدع وتشقق في الأبنية القريبة.
لكن الخطر الأكبر الذي ينجم عن عمل المقالع يكمن في تأثيرها على أحواض المياه الجوفية والسطحية بحسب الجيولوجي “ثابت كسحة” والذي قال: إن التفجيرات تؤدي لحدوث تشققات في طبقات الأرض الكتيمة والتي تشكل حاجزاً ما بين أحواض المياه السطحية وأحواض المياه الجوفية، تلك التشققات ستؤدي لضياع المياه السطحية وهجرتها نحو أعماق كبيرة ما يؤدي لفقدان الحوض المائي، كما تؤدي التفجيرات لحدوث عمليات انزلاق في الصخور وحركات تكتونية تحدث في باطن الأرض، وستساهم تلك الحركات بسد الأقنية المائية الواصلة ما بين مناطق التغذية والآبار الأمر الذي قد يؤدي لجفافها نتيجة انسداد القنوات المغذية لها. كما ينتج عن التفجيرات تصدعات كبيرة تسهم بنقل المياه الملوثة ومياه الصرف الصحي إلى طبقات الأرض السطحية، ما يؤدي إلى تلوث مياهها.
الضرر على القطاع الزراعي
تنتج عن أعمال المقالع كميات كبيرة من الأتربة والغبار في المناطق القريبة منها بسبب أعمال التفجير المستمرة وحركة السيارات الضخمة على الطرق الترابية، ما ينعكس بشكل سلبي على الغطاء النباتي، يقول المهندس الزراعي بسام الياسين إن الغبار المنتشر بشكل كثيف في الجو يقلل من عملية التركيب الضوئي للنباتات، ويقلل من نشاطها وخاصة أثناء موسم تلقيح الأشجار مما يؤدي إلى شللها وعدم انتهائها من عملية اللقاح وبالتالي يتراجع محصولها، كما يساهم انتشار الغبار بشكل كبير في تراجع تكاثر النحل وانخفاض نشاطه وإنتاجه للعسل بسبب انتشاره بشكل كثيف على الأزهار، الأمر الذي يمنع تلقيح بعض الأشجار والنباتات الزهرية.
ويسبب انتشار هذه الأتربة وتوضعها على أوراق الأشجار المثمرة تراجعاً في إنتاجها، وكلفة مادية أعلى على الفلاحين الذين يضطرون لريها بالرذاذ الرشاش لغسلها من الأتربة العالقة، وهو ما لا يملكه معظم أصحاب الأراضي في المنطقة في حقولهم.
المقالع مصدر رزق للعاملين بها
معظم مقالع الحجر بريف إدلب الشمالي أقيمت على أراضٍ عامة تتبع لحكومة الإنقاذ، ويقوم صاحب العمل باستئجارها من الحكومة، يقول الحاج يوسف أبو أحمد (صاحب أحد المقالع في منطقة أطمة) إنه قام باستئجار واحدة من الأراضي العامة من حكومة الإنقاذ لمدة خمس سنوات، ليبدأ بوضع المعدات والأليات لتقطيع الصخور وإنتاج الرمل الذي ستعمل الشاحنات الكبيرة على نقله للمستفيدين.
لا ينكر أبو أحمد وجود عدة سلبيات في عمل المقالع، إلا أنه يؤكد أن هذا العمل يوفر حاجة الشمال السوري من مادة الرمل والحجر للبناء بشكل كامل، كما أنه يوفر فرص عمل لأكثر من ألف شاب إذ يوفر المقلع الواحد نحو خمسة وعشرين فرصة عمل.
انتقلت الكثير من المقالع الحجرية من ريف إدلب الجنوبي إلى الشمالي بعد سيطرة قوات الأسد عليه، وتحتاج المنطقة والأهالي لمثل هذه المقالع في تأمين مواد البناء بأسعار مقبولة، إلا أن على الحكومة، بحسب من تحدثنا معهم، إلزامهم بشروط ترخيص أهمها الابتعاد عن المناطق المأهولة بالسكان، وتحديد ساعات العمل، وفرض التدابير الوقائية وأساليب الحماية على المواد المستخدمة في التفجيرات، وكذلك على العاملين، وإلزام أصحاب الشاحنات بتغطية حمولتهم أثناء نقلها من المقلع، بهدف منع تطاير الغبار منها أثناء السير.