بين الحق والرفض يعيش سوريون حرموا من عيدهم، يحاولون جاهدين إخفاء ما يعتمل في صدورهم وتجهيز أنفسهم لفرح طارئ يتمنون فيه لأنفسهم ولمن حولهم خيراً يخافون التفكير فيه، إلا أنه يرافقهم كلازمة دون أن يشعروا بفقدان معانيها التي بدأت تتفلت من بين أيديهم، يرتقون أيامهم بعد فتق، يليها فتق بعد رتق لأحزان ترافقهم منذ سماع التكبيرات الأولى.
يريح بعضهم ذاكرته، ليمر العيد دون أي مظهر من مظاهره، كيوم عادي يمضونه رافضين الرد على رسائل المعايدة الجاهزة، أو تلك المفعمة بالحنين، عشرات من العلامات الخضراء على تطبيق الواتس آب يرافقها تحدّ بعدم فتحها والاطلاع عليها، يسوقون لذلك حججاً كثيرة، مثل فقدان البهجة، لا عيد دون ذاكرة، أصحاب العيد القدامى والذين توزعوا في قبورهم أو في بلدان العام المختلفة، العيد المسروق مع ضياع المدن والبلدات ونزوح سكانها، الخيام التي تحولت لمساكن مؤقتة لا تصلح لعيد، وما يرافق ذلك المنفى الجديد من فقدان لمتطلبات العيد، فلا كهرباء تشوي أقراص الكعك والعجوة والمعمول والغريبة، ولا نقود تكفي لصناعة طبق رئيسي من الكبة السماقية او السفرجلية، لا فرح بألبسة جديدة للأطفال، لا حدائق تغطي النقص والغلاء بأسعار الملاهي، والأهم من ذلك الكثير الكثير من الغيّاب.
يحاول آخرون، العض على الجرح، يقولون إنه شعيرة دينية علينا التعلق بها، هي خير وفرح وهدية من الله، وعلينا أن نعيشها أياً كانت الظروف، دقائق تمر على تلك الصلابة المصطنعة قبل أن يدخلوا في نوبة حنين، إذ تغدو كل الأحاديث عن أعياد ورفاق وأهل سابقين، محلات وأطعمة وشوارع بعينها هي من تلح على الألسن والعقل، وتحمل معها مسح كامل لكل ما هو مؤقت، يضيع أصحاب هذا الرأي بين عيدين، عيد مرسوم منذ أعوام كثيرة مضت، وعيد يدق الأبواب ولا يترك أي تفصيل من الممكن إضافته لأحاديث سابقة لا بدّ ستأتي.
بين هاتين الفئتين من يجتزئ بعض السمات من الطرفين، يرسل على عجل رسائل خجولة ومتشابهة، ويرد على المعايدات، يحتضن أطفاله صباحاً في عيدهم ويسعى لإسعادهم، في الوقت الذي يصدر لنا في أحاديثه العامة وكتاباته على وسائل التواصل الاجتماعي شعوراً بالقهر والحزن، وكأنه يحملنا على الابتعاد عن العيد الذي غدا تهمة، والاحتفال به سيرافقه تصعيداً للشعور بالذنب والاتهام بانعدام الإحساس، خاصة إن كان المحتفلون بالعيد يعيشون خارج سوريا، الأمر الذي سيشعرهم بالخجل من التصريح بمظاهر عيدهم، وإخفاء مظاهره، حتى وإن كان بمستوى صورة لأطفاله الفرحين في حديقة أو خلال لعبة ما، وإن كان من سترسل له أم أو أخ أو أخت.
اللغة الجديدة للتواصل أصبحت تحتاج للشرح، هناك لغة غير مفهومة بين الطرفين، اللاجئ الذي يحتاج دوماً لإثبات ولائه لذويه وأصدقائه ولثورته أيضاً، والمقيم في الداخل والذي ينقسم في داخله بين شعورين “الضحية والجلاد في آن معاً”.
يعيش المغتربون إحساساً مضاعفاً بالقهر، رغم استقرارهم الحياتي بنسبة جيدة، خاصة في مناسبات معينة كالعيد. تقهرهم الوحدة والغربة التي يعيشونها بعيداً عن الحياة الاجتماعية التي يشترط وجودها لتحقيق السعادة، ويقهرهم الشعور بالذنب لغياب مظاهر العيد عن أحبائهم، يرجو معظم الحصول على فرصة لتقبيل يد أمهاتهم، على سبيل المثال، ولا يمكن هنا المفاضلة بين الامتيازات التي يعيشونها وحالة الاكتئاب التي ترافقهم بغياب “اللمة”، وزيارة المقابر وطقوس العيد وتكبيراته، كذلك الزيارات الجماعية وفناجين القهوة المرة والحلويات المركونة في أرضية منزل “الجد أو الوالد”، ذلك الشعور بأنك “مقطوع من شجرة”، كان يشعر به من يعيش في المدن بعد هجرانهم لقراهم، وهو ما كان يدفعهم لتمضية أيام العيد فيها، وتنمية الشعور بـ “العائلة”، العائلة التي باتت في الغربة تقتصر على شخص واحد، وفي أحسن الأحوال، على من يسكنون في بيت واحد.
يحتاج المتزوجون من اللاجئين لساعات طويلة صباح يوم العيد للتخفيف من نوبات البكاء على الهاتف، والتي ترافق الاتصال بالأمهات، كذلك الزوجات اللواتي يعش أسوأ أيامهن، ليصبح هذا اليوم عبئاً إضافياً يتسبب بالكآبة، أو يعززها بنسبة كبيرة.
ليس هناك “حلويات عيد” على طاولات اللاجئين، ولا يوجد في كثير من المناطق تلك الأنواع المألوفة في مثل هذه المناسبات، وكل ما يمكن أن يضاف إلى هذه اليوم خلافاً للأيام العادية، هو تلك الاتصالات الهاتفية والرسائل الإلكترونية والكثير من الغضب والحنق.
ليس هناك حالة من الترقب لأيام العيد، بل هي حالة من الخوف والتمني بمروره سريعاً، ذلك أن كلاً منا يتسبب بألم الآخر دون أن يدري، دعاء الأمهات باللقاء، و “آمين” أبنائهن الذي يرافقه خوف من فكرة العودة بالأصل، وما يرافقه هذا الخوف من أمنيات باهته بالعودة المشروطة، العودة مع عودة الزمن، الحياة ضمن ذاكرة لن تعود أيضاً، البحث عن رفاق لم تتغير ملامحهم، والأهم من ذلك، التفكير بلغة مشتركة لا تكون الذاكرة كلها، بل جزء يسيراً منها، مقابل تفاصيل جديدة ستأتي، وهو أمر لا يمكن تصوره أو تحقيقه حالياً.
يشبه عيدنا اليوم، لازمة بـ “الخلاص” التي يتداولها المعتقلون والسجناء، بما تحتويه من رفض للواقع الحالي، والأمنيات بقادم حرّ بعيداً عن الجدران والزنازين ووجوه الجلادين، مع التركيز على وجود من ينتظرك خارج هذه الجدران ليحتويك لا ليقرعك في كل مناسبة، ليضمك إلى صدره لا ليركلك بعيداً، ذاك أنك لم تعد جزء من حياته وتفاصيله، ليمسك بيدك ويدلك على الشوارع والمحلات والأشخاص التي تغيرت بعد غيابك، لا أن يقيدك بطعوم وأشخاص لا يمكن استعادتها أو استعادتهم.