فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

السبحة في إدلب.. تجارة حاضرة حتى على الإنترنيت

محمد الأسمر

رواج تجارة المسابح وصعوبة الوصول إلى التجار المتوزعين في مختلف المحافظات السورية ودول اللجوء، دفع بعض العاملين بها للاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر تجارتهم بشكل أوسع عبر فتح مزادات علنية عن طريق البث المباشر على الفيس بوك، وبذلك تمكن التاجر من توسيع دائرة زبائنه بشكل أكبر بكثير.

“مسبحة سندلس، طقمها فضة، لونها..”، مواصفات يبدأ بتعدادها المزاودين على السبحات عبر البث المباشر في الفيس بوك، بعد أن انتقل قسم من هذه التجارة ليدخل عالم الانترنيت، برواد كثر يتوزعون في مختلف البلدان، يجمعهم حب اقتناء السبحات وأنواعها ويلعب في تحديد سعرها عوامل كثيرة أهمها حرفة الصانع ونوع الحبات والطقم المرافق لها.

وعرفت السبحة منذ عصور قبل الإسلام، بحسب ما نشره الكاتب ماهر فرغلي في موقع حفريات، نقلاً عن عدد من الدراسات والكتب، والذي أعاد وجود السبحة في البلاد العربية إلى القرن الثالث الهجري، وإن أول استعمال لها كان بين أوساط الصوفية في القرن الخامس عشر الميلادي، كما تحدث عن خلافات فقهية ودينية بين مؤيد ومنكر لاستخدامها في أوساط العلماء.

 

وتحدث التقرير المنشور عن قدم استعمال السبحة وقدسيتها لدى بعض الشعوب إذ كانوا يغسلونها بالمياه ثم يشربون تلك المياه لتكون دواء لبعض الأمراض، كما استخدمها اليهود والمسيحيون وخاصة الرهبان منهم، وذلك عبر تعليقها في صوامع العبادة بغية التقرب إلى الله، ناهيك عن استعمالها من قبل بعض الشعوب كتميمة أو تعويذة تحميهم من المخاطر..

السبحة السورية ومواصفاتها
تتألف “السبحة” السورية من مجموعة حبات متطابقة مثقوبة لتسمح للخيط الذي يجمعها بالمرور، ولها نموذجان يتألف الأول من ثلاثة وثلاثين حبة، في حين يتألف الثاني من تسعة وتسعين حبة، تُفصل حباتها عن بعضها البعض بـ “فاصلتين” وهما حبتان من نوع ولون مختلف توضعان بشكل متناظر ليقسما حبات السبحة، التي ستنتهي بـ “الشاهود أو المئذنة”، ويضيف إليها بعض الناس ما يعرف “بالشرابة” وهي أداة للتزيين .

انتقلت صناعة “السبحات” إلى سوريا عبر تركيا التي تميزت بصناعتها منذ بداية القرن الماضي، إذ تعتبر البلد الأول عالمياً بإنتاجها، في حين تميزت محافظة حلب بين المحافظات السورية بهذه الصنعة، بحسب تجارها.
وتقسم السبحة حسب صناعتها إلى قسمين يعتمد الأول على خامات بلاستيكية تستعمل فيها مجموعة من المواد التي يتم خلطها بطريقة ما لتظهر بألوان جميلة ويتم تحويلها لحبيبات تشكل السبحة، مثل الفاتوران والسندلس والعضم والكوك، وتتراوح أسعارها ما بين ثمانية دولارات إلى خمسة عشر دولاراً وهي الأكثر انتشاراً بسبب مناسبة أسعارها لأوضاع الناس في إدلب، في حين يعتمد القسم الثاني على  خامات طبيعية مثل العنبر، الكهرمان، والنارجين والمرجان، واليسر ويعتبر الأخير من أكثرها انتشاراً بين حاملي السبحات المميزة ويتراوح سعرها بين خمسين إلى مئة وخمسين دولاراً مع شرابة الفضة.
البيع الالكتروني

رواج تجارة المسابح وصعوبة الوصول إلى التجار المتوزعين في مختلف المحافظات السورية ودول اللجوء، دفع بعض العاملين بها للاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر تجارتهم بشكل أوسع عبر فتح مزادات علنية عن طريق البث المباشر على الفيس بوك، وبذلك تمكن التاجر من توسيع دائرة زبائنه بشكل أكبر بكثير.يعمل أبو عرب بتجارة المسابح والفضيات منذ أكثر من عشر سنوات، ومؤخراً وسع تجارته عبر البث المباشر على الفيس بوك، يقول أبو عرب إن هواية جمع “المسابح” دفعته للعمل بتجارتها، ولأنه فقد كثيراً من زبائنه بعد رحيله من حي صلاح الدين بحلب إلى تركيا، وجد بديلاً مناسباً عبر طرح “السبحة” التي يريد بيعها بمزاد علني، ما جلب له زبائن جدد من كافة أنحاء العالم.

“قد نتعرض لبعض لعمليات الاحتيال في بعض الوقت لأننا نتعامل مع أشخاص قد لا نعرفهم”، يقول أبو عرب “فقد يدخل ضمن المزاد شخص ما ويشتري البضاعة وعندما يتم شحنها تنقطع وسيلة الاتصال معه، ما يعني أن التاجر دفع تكاليف الشحن دون أن يتمكن من البيع”.
كما تحدث أبو عرب عن بعض عمليات الغش التي يقوم بها بعض التجار أثناء عرضهم على الفيس بوك، إذ يقوم بعضهم بالترويج لبضاعته وذكر مواصفاتها بدقة، وعند إرسال البضاعة للزبون قد يرسل أنواعاً مغايرة.

يعتمد بعض أولئك التجار على البيع والمزاودة عن طريق تسجيل الاسم ورقم الحساب البنكي، إذ يتم البيع والشراء عبر تحويلات مالية، آخرون يعتمدون نظام “ضد الدفع”، إذ لا يتم تسليم البضاعة حتى دفع المبلغ المتفق عليه، كذلك تشهد بعض المزادات نشاطاً كبيراً في بعض الأنواع ما يحقق أرباحاً جيدة، وأخرى تباع بأقل من ثمنها، فبعد فتح المزاد لا يمكن إغلاقه، يقول من تحدثنا معهم من التجار، أما محمد الخالد وهو أحد المشتركين في هذه المزادات ومن محبي اقتناء المسابح فيقول إن مزاودات وهمية تتم عبر البث المباشر، غالباً يتم رفع السعر من قبل أشخاص يتعاملون مع التاجر، ويدلل على كلامه ببيع سبحة ما على سبيل المثال، وبعد أسابيع يعود التاجر لفتح مزاد عليها، ما يعني أن البيع كان وهمياً، والثمن الذي دفع كان لـ “تحمية المزاد”، بحسب اللفظ المتداول.

إلا أن الخالد، ورغم وجود مشكلات عديدة في البيع عبر الانترنيت، يرى أن هذه الطريقة جيدة، خاصة للوصول إلى السبحات النادرة، والتعرف على بضائع جديدة وتقدير ثمنها، كذلك بناء صداقات مع أشخاص مثله من هواة اقتناء وبيع المسابح.
وبمراقبة بسيطة لبعض الفيديوهات تجد أن القائمين عليها لا يلتزمون بأعراف المزادات المعمول بها في الأسواق، وكثيراً ما يلغي صاحب المزاد بيع القطعة التي بين يديه إن لم تصل للسعر الذي يناسبه، وهو ما يراه أبو عرب عيباً كبيراً بحق التاجر، ويؤكد استحالة قيامه بذلك، لأنه على يقين بأن عمله سيتعرض للربح والخسارة ولا مشكلة إن لم يصل المزاد إلى سعر السبحة الحقيقي، ويقول إن التاجر الناجح يجب أن يعرف الوقت المناسب لطرح بضاعته وأن ينتظر دخول الزبائن الراغبين فعلاً بهذه القطعة.
تجارة السبحات في إدلب
مفاخرة حاملي السبحات فيما بينهم عبر طقطقة حباتها و”فركها” لتصدر رائحة زكية وارتباطها بالموروث الشعبي ساهما باستمرار تجارة السبحة لتشكل دخلاً جيداً للعاملين بها في إدلب.
يفصل لنا جمال أبو أحمد (تاجر سبحات في مدينة إدلب) والذي فصّل لنا أنواع المسابح وألوانها وأشكال حبيباتها وأعمارها وأشهر ميزاتها ليقول.

تنقسم تجارة المسابح إلى قسمين، الأول بلاستيكي يصنع في الورشات يعتمد على المسابح الحديثة الصنع والتي تم شراؤها من الورشات، التي تعتمد في غالب إنتاجها على الخامات الصناعية، في حين يعتمد القسم الثاني على شراء المسابح القديمة من أصحابها ويكون هذا القسم أكثر جودة وأغلى سعراً لاعتماد صانعيه على خامات طبيعية من الأحجار الثمينة، وتلعب “الشرابة” دوراً كبيراً في رفع قيمة السبحة وخاصة إذا كنت مشغولة يدوياً ويؤثر قدمها على سعرها، وتعرف بين التجار بمصطلح “كسر جفت” تمتاز بنسبة الفضة العالية فيها واعتماد صانعيها على عملة حقيقية في تزيينها، ناهيك عن دقة صناعتها اليدوية، ومن الأنواع المعروفة “الحبال، العقاد، وعمر” والتي تعتبر أشهرهن وأغلاهن ثمناً وتنسب لصانعها الإدلبي عمر قدور، وقد تباع الواحدة منها بنحو 250 دولاراً بسبب جودة صنعتها واحتوائها على عملة قديمة وترصيعها ببعض الأحجار الثمينة.
يصف أبو أحمد إقبال الناس على هذه التجارة بالجيد رغم الظروف الاقتصادية السيئة التي تمر بها البلاد، لكنه يؤكد أنه يعتمد بمرابحه على التجارة الخارجية بشكل أكبر، حيث يقوم بإرسال المجموعة التي يريد بيعها إلى تركيا وتشحن إلى أي دولة بالعالم عبر DHL .

أثناء تجوالك في مدينة إدلب ستشاهد عدة “بسطات” لبيع الخردوات والأشياء القديمة، وستجد أن جميعهم يعرضون سبحات مختلفة بين بضائعهم، وعند سؤالهم عنها يسارع البائع لشرح قيمتها وميزاتها محاولاً إقناعك بأن السعر الذي يعرضه هو الأنسب، وأنك قد تربح ضعفه في حال عثرت على تاجر يعرف بقيمة هذه القطعة، ما يعرض كثير من الزبائن للغش والخسارة بعد تأكدهم من أن القطعة التي اشتروها مزيفة ولن تباع بالسعر الذي دفعوه.
يقول أبو أحمد إن هذه المهنة تحتاج لدراية كبيرة ويصعب تعلمها بسنة أو سنتين، ما يعرض كثير من الزبائن لحالات غش نتيجة جهلهم بنوع الحبة التي صنعت منها السبحة.
السبحة متوارثة عبر الأجيال
يقول من التقيناهم من هواة جمع السبحة وتجارها إنها تكاد تكون أكثر أدوات الزينة المنتقلة من الآباء إلى أولادهم، لأن الحجارة التي صنعت منها تمنحها عمراً مديداً. ويتفاخر أبو قاسم أثناء جلساته مع أقرانه بالسبحة التي يملكها والتي ورثها عن والده، يقول: كان والدي محباً لهذا النوع من التحف لذا قمت بإهدائه هذه السبحة من نوع اليسر المكاوي، وبعد وفاة والدي عادت السبحة لي من جديد.
يتجاوز سعر هذه السبحة نحو مئتي دولار، لكن أبو قاسم رفض بيعها رغم رغبة كثير من التجار بشرائها لأنها تمثل حالة معنوية قد تكون أكبر بكثير من قيمتها المادية.

تلك الأهمية تظهر بوضوح عند عودة الحجاج والمعتمرين من السعودية إذ يحرص غالبيتهم على شراء كميات وفيرة من السبحات لتوزيعها على الأهل والأصحاب عند استقبالهم، ما يعكس قيمة تلك السبحة المعنوية بحياة السوريين.
تحافظ تجارة السبحات على أهميتها رغم الواقع الاقتصادي السيء لمعظم السكان في إدلب، إلا أنها ترافقهم لما تعنيه من حالة معنوية لهم، ولاعتيادهم على حملها، ويتنوع التجار في أساليب بيعها واختيار الألفاظ المناسبة لوصفها وطريقة حملها، والتي تصنف من يحملها بين أقرانه بلفظ “غاوي” كدليل على معرفته قيمة ما يحمله ومعناها ومعرفته بأصول نقل حباتها وطريقته في الحفاظ عليها.

ويخبرنا حاملو السبحات بنصيحة علينا أن نتجنبها وهي أن لا ننشغل بأحاديثنا عنها، فيكفي أن يطرق أحدهم على يدك لتقدمها له، وغالباً ما يكون استعادتها أمراً بالغ الصعوبة.