تضاعفت إيجارات الفنادق والشاليهات في الشواطئ السورية خلال السنتين الأخيرتين، ليصل حجز يوم واحد في فندق سياحي بطرطوس إلى ستة أضعاف راتب موظف حكومي، وراتب شهرين للشاليهات متوسطة الجودة في اللاذقية، وذلك بعد سيطرة الضباط والتجار المقربين من نظام الأسد وروسيا على تلك الشواطئ، وانعدام الرقابة عليها، ليصبح الاصطياف حكراً على فئة محددة من الأغنياء والمتنفذين، ولم يعد بمقدور الموظفين وأصحاب الدخل المحدود.
ووصل سعر استئجار أحد “الشاليهات” على ساحل طرطوس هذا العام نحو ثلاثمئة ألف ليرة سورية لليوم الواحد، بحسب تقريرٍ لصحيفة “تشرين” الموالية، والتي أشارت إلى أن ارتفاع الأسعار جعل السياحة و”شم الهوا” خارج اهتمامات أكثر من 80% من السوريين.
“البحر ليس لنا”
رفعت حكومة الأسد إجراءات الإغلاق التي فرضتها على مختلف الفعاليات السياحية بعد انتشار كورونا، وأعلنت منتجعات الساحل السوري عن بدء استقبالها النزلاء بأسعارٍ وصفها البعض بغير المناسبة لشريحة واسعة من السوريين، الذين يعانون أصلاً من تدني مستوى الدخل، بالتزامن مع الارتفاع الكبير بالأسعار عقب انهيار الليرة السورية.
اعتاد أبو محسن من مدينة حلب على الاصطياف مع عائلته في شواطئ اللاذقية قبل انطلاق الثورة السورية، لكنه قلّص رحلاته خلال السنوات الماضية، مع ارتفاع أسعار الشاليهات وطول الوقت المستغرق للوصول من حلب إلى اللاذقية نتيجة انتشار الحواجز الأمنية على الطرقات.
قرر أبو محسن اصطحاب عائلته للشاطئ الأزرق في اللاذقية هذا العام، لكنه أصيب بالصدمة حين استفسر عن أسعار الشاليهات التي تراوحت ما بين خمسين إلى تسعين ألف ليرة سورية.
يقول أبو محسن إنه “استأجر شاليه بـ خمسين ألف ليرة لمدة يومين، لكنه وصفه بـ “السيء جداً” من ناحية الإكساء والنظافة، كما أنك تحتاج للمشي ربع ساعة حتى تصل إلى الشاطئ، أما الشاليهات المطلة على البحر تماماً، فتتراوح أجرتها ما بين “خمسة وسبعين إلى تسعين ألف ليرة”، مشيراً إلى أن “الجلوس على الشاطئ كذلك يتطلب دفع تكاليف استئجار الكراسي والطاولات والمظلةً”.
وتتضاعف الأسعار أكثر في المنتجعات السياحية، حيث تصل تكلفة غرفة لشخصين إلى مئة ألف في الليلة الواحدة، بينما تبلغ أجرة الجناح (السويت) نحو مئة وخمسين ألفاً.
ويبلغ متوسط راتب الموظف في سوريا نحو خمسين ألف ليرة، ما يعني أن عليه دفع راتب شهر كامل لقضاء ليلة واحدة في أسوأ الشاليهات، عدا عن مصاريف السفر والطعام والترفيه، وبالتالي بات الذهاب للاصطياف في سواحل سوريا حكراً على الأغنياء والتجار ومسؤولي النظام.
شاليهات النقابات لا تخدم أولادها
تمتلك كافة النقابات المهنية مجموعة من الشاليهات على شواطئ سوريا، حيث يحق لكل موظف منتسب لتلك النقابات استئجار شاليه بسعرٍ مقبول مقارنة بالشاليهات الخاصة، إلا أن الحصول على شاليه من مخصصات النقابة بات أمراً صعباً وتحكمه المحسوبيات.
وقال مهندس من مدينة دمشق فضّل عدم ذكر اسمه: “أنا منتسب لنقابة المهندسين، وعلمت أن كل مهندس يحق له استئجار شاليه في طرطوس أو اللاذقية، لذا سجلت في بداية الصيف الماضي على دور لحجز شاليه، حيث تبلغ أجرة ثلاثة أيام خمسة وثلاثين ألف ليرة، وهو مبلغ جيد مقارنةً بأسعار الشاليهات الخاصة التي لا يستطيع أي موظف على تحملها”.
وأضاف “انتهى الصيف وجاء الخريف ولم أحصل على دور في أحد الشاليهات، بينما حصل أصحاب “الواسطات” على شاليه جيد وبأسرع وقت، ومع قدوم هذا الصيف فكرت باصطحاب أطفالي إلى الساحل وعلى نفقتي الخاصة، فليس هناك أمل بالحصول على الشاليه عبر النقابة، لكن صدمتني الأسعار المرتفعة هذا العام، لذا عزفت عن الفكرة متجاهلاً طلبات أطفالي المتكررة، وعلمت أن البحر لم يعد لنا”.
فخ سياحي
ارتفاع أسعار الشاليهات والفنادق، دفع بعض العائلات وخاصةً من أبناء الساحل أو النازحين المقيمين في تلك المناطق، للذهاب إلى الشواطئ المفتوحة للسباحة فقط، إلا أنهم اكتشفوا أن تلك الشواطئ عبارة عن فخّ سياحي.
وقال “مصطفى” نازح من بلدة الحمامة بجسر الشغور: “أقيم مع عائلتي في اللاذقية منذ ثلاث سنوات، وفي كل عام ترتفع أسعار الشاليهات أكثر، لكن الأمر لم يتوقف على هذه الأجور فقط إذ يلزمك للجلوس أمام البحر دفع أجرة ثلاثة آلاف وخمسمئة ليرة سورية كأجرة طاولة، وأربعة آلاف عن كل كرسي، وألف وخمسمئة لقاء استئجار مظلة تقي حر الشمس، عدا عن حالات الاستغلال في أسعار المواد مثل المشروبات والأطعمة”.
تقسم الشواطئ المفتوحة على الساحل السوري إلى نوعين: شواطئ مجانية لكنها مستثمرة من قبل التجار وتدفع ثمن استعمال الكراسي والطاولات الخاصة بهم، وشواطئ مأجورة وتدخلها مقابل رسم يتراوح ما بين ثلاثمئة إلى خمسمئة ليرة سورية للشخص بالإضافة إلى رسوم استئجار الطاولة والكراسي، وأي خدمات أخرى يحتكرها المستثمر، وأغلب الشواطئ المفتوحة صغيرة وصخرية، وبعيدة عن مراكز المدن أو الشواطئ الرئيسية، بينما الشواطئ الرملية الواسعة فهي من حصة المنتجعات والشاليهات باهظة الثمن.
حلول بديلة
وفي المقابل لجأ أصحاب الدخل المتوسط أو المحدود إلى حلولٍ بديلة، وقال أبو أشرف من سكان حي الصليبة باللاذقية: “لجأت كثير من العائلات الراغبة بالاصطياف على البحر إلى الشواطئ البعيدة عن اللاذقية، ولاسيما منطقة رأس ابن هاني، حيث يتواجد على الشاطئ خيم، وتستطيع العائلة استئجار خيمة بمبلغ خمسة آلاف ليرة لليلة الواحدة، علماً أن الشاطئ متسخ للغاية والخدمات غير متوفرة”.
وتابع أبو أشرف: “كما لجأت بعض العائلات الفقيرة، لدفع أجرة الدخول إلى الشاطئ فقط، بينما أحضرت طعامها معها و فضّلت الجلوس على الرمل وتحت أشعة الشمس، بدلاً من استئجار طاولات وكراسي كي لا تضطر لدفع مبالغ إضافية”.
وفي السياق ذاته يسعى بعض السوريون للهرب من حر الصيف، إلى استئجار المزارع بدلاً من التوجه إلى الساحل، كونها تعتبر أقل تكلفة، حيث تراوحت إيجاراتها اليومية في ريف دمشق ما بين خمسة وعشرين إلى مئة ألف ليرة تبعاً للحجم والمكان والإكساء والمسبح.
اعتادت أم عبدو من سكان جرمانا بريف دمشق على الاصطياف في شواطئ اللاذقية كل عام، لكن مع ارتفاع أجرة الشاليهات ومشقة السفر، أصبحت تفضّل استئجار مزرعة مزودة بمسبح على أطراف جرمانا”.
تقول أم عبدو غالباً يتم استئجار تلك المزارع من أكثر من عائلة، حيث يتم تقسيم أجرتها مع تكاليف الطعام والشراب على الجميع لتنخفض التكلفة على الأسرة الواحدة، كما يعمد البعض لاستئجار المزرعة ضمن أيام الأسبوع، حيث تكون أجرتها أقل مقارنةً بيوميّ الخميس والجمعة”.
سعى النظام للترويج عبر إعلامه في الصيف الماضي، إلى افتتاحه شاطئاً لذوي الدخل المحدود في منطقة وادي قنديل بمحافظة اللاذقية، يضم الشاطئ أربعة وعشرين شاليه خشبي يتسع كل منها لعائلة من أربعة أشخاص، وتبلغ أجرة الشاليه عشرة آلاف ليرة.
وقال أبو أشرف إن “الشاطئ غير مناسب أبداً للاصطياف، حيث صممت أكواخه من الخشب ولم تزود بأي مكيفات، كما أن الجرذان والفئران والحشرات تتواجد داخلها بشكل كبير، إضافةً إلى اتساخ الشاطئ وعدم اهتمام البلدية بتنظيفه، كما أنه يبعد عن مدينة اللاذقية نحو خمسة وعشرين كم”.
الشواطئ ملك النظام
من جهةٍ أخرى استاء من تحدثنا معهم من غياب أي رقابة من حكومة النظام على أسعار الشاليهات والفنادق، وقال الناشط الاعلامي أبو شادي الحموي، إن جميع الشاليهات والفنادق والمنتزهات السياحية في الساحل ملك لضباط وشبيحة الأسد، وبالتالي فإن مديريات النظام المسؤولة عن الرقابة وضبط الأسعار، غير قادرة على إلزام أصحاب تلك الشاليهات بسعر محدد أو معاقبتها، وتغض الطرف عنها، رغم ورود العديد من الشكاوى لها”.
وأضاف الحموي أن “شبيحة النظام المسؤولين عن تأجير الشاليهات، يتعمدون رفع الأسعار خاصةً حين قدوم نازحين من مناطق أخرى كنوع من العقاب لهم، وفي بعض الحالات التي وردت قام شبيحة النظام بطرد نازحين من إدلب وهددوهم بالاعتقال في حال دخول الشاطئ”، كذلك قاموا باستثمار الشواطئ التي كانت متاحة للعموم وحولوها إلى مطاعم ومنتجعات سياحية مأجورة، إضافةً إلى استيلاء روسيا على مساحات واسعة منها لقواعدها العسكرية.
وتذكر دراسة نشرها مركز حرمون بعنوان المشروع الروسي في سوريا إن القواعد الروسية منتشرة بكثافة في الساحل السوري، ولا تخلو دائرة بقطر ٢٠ كم من نقطة عسكرية روسية تسيطر عليها سيطرة كاملة، إضافة للقواعد البحرية الكبرى. وكانت تقارير صحفية قد تحدثت عن توسع للقواعد الروسية في الشاطئ الأزرق باللاذقية، وبذلك تنتهي معظم المساحات المجانية المخصصة للعموم فيه، بعد أن قامت حكومة النظام باجتزاء ٢٨٥٠٠ متراً مربعاً منه لبناء منتجع (الغولدن بيتش).
تغول الشبيحة والامتداد الروسي يظهر شكل سوريا بعد سنوات من الحرب، وفي أهم معاقل موالي الأسد، إذ لا يملك معظم سكان هذه المناطق القدرة على السباحة المجانية في المدن التي لا يبعد البحر عنها سوى أمتار قليلة.