يعلم أنه عائد، يقول إن “للبيت حدس لا يخيب”، في الصورة عود ونوتة موسيقية ودماء، وفيها سراقبه التي لا تغيب، سراقب مَن غنى لهم وغناهم، من محمد حاف وحتى إنانا ابنته الشهيدة، وفاطمة رفيقة الدرب وشريكة الحياة، ومن رسوماته على فوارغ الرصاص إلى كتابة مواقفه بجمال الخط العربي، موقفه من الثورة وللثورة، وضد العتمة أياً كانت. ما زال صوته في كل يوم يوقظ مشاعر محبيه دون خوف، فبيته كما يقول “ليس مستودعاً للبرغل والبصل، بل مستودعاً للجمل الموسيقية وللوحات الياسمين الزيتية”.
وتر من “سبحة” وشهيد يرثي شهيداً
على نغم العتابا الحزينة والموليّة فتح الطفل خالد شلاش عينيه، دندنت له خالته حزنها بعد مرض أمه وهو في الثانية والنصف من عمره، وتركت موسيقاها في قلبه الذي راح يبحث عن الفن، وفي سنوات الدراسة الابتدائية جمع خيطاناً من نايلون “السبحات”، تبتها بمسامير على لوح خشبي وراح يدندن أولى النغمات، ومعها كان يبني أحلامه التي يخبرنا أنها لم تتحقق.
لم يدرس شلاش الموسيقا، يرجع ذلك للظروف، والتحق بقسم الفلسفة في جامعة دمشق، إلا أنه تابع موسيقاه كهاوٍ، وكمتدرب على يد أخيه الأكبر (أسعد) الذي علمه الطريقة الصحيحة للضغط على الأوتار بعد أن حصل على عوده الأول من عمله بصناعة “البلاط” خلال العطلة الصيفية، وقتها كان في المرحلة الثانوية كما يقول.
ثلاث عشرة سنة قضاها شلاش يغني تراث سراقب في الأعراس الشعبية، ضمن عائلته التي تعشق الفن، إذ كان والده عازف ربابة، بينما أخويه يعزفان على الناي والعود، لينقل ذلك الحب للموسيقا رفقة زوجته المدرسة فاطمة، والتي ارتبط بها في العام ١٩٨٦، إلى بناته الثلاث، الطبيبة “سنابل”، وخريجة معهد الموسيقا “سلامة”، وشبيهته في الحلم والغناء والعزف والخط العربي “إنانا” التي كان يرى فيها امتداداً لروحه.
غنى شلاش وإنانا قبل استشهادها ووالدتها في العام ٢٠١٥ بقصف للطيران على منزلهم، للشهداء وحراس الطرقات، لمحمد حاف الذي هو “محمدنا”، لسراقب وتراثها، لصوت الرحى التي “تجرش البرغل” معلنة بدء موسم القمح. يخبرنا شلاش أن للثورة قرابين وعلينا أن ندفعها، كان صوت إنانا وحده “ثورة” في زمن يخاف “الجمال” فيقتله.
ما يزال عوده يعزف، وصوته يصدح، لا يمكن للموت والظلم أن يقتل روح الفنان، يخبرنا أنه تماسك من أجل بناته وأحفاده، وأطفال أخرين يريدون الحياة، تعليمهم يستحق أن نقف، وما زال يعثر على الأمل في عيون طلابه، يقول إنه يرى إنانا تلعب بينهم. تتعلم وتبتسم، وهو ما يدفع دوماً للاستمرار بأداء رسالته.
يقول عنه ساهر حج علي “خريج معهد حلب للموسيقا”، لقد جمع خالد في حقيبته فنون عدة، دائماً ما يكون ظاهراً في الصورة رغم اعتزال معظم الفنانين وسفرهم، ما ترك الساحة فارغة، وهو ما يجعل من عمل خالد إنجازاً، خاصة بما ينقله لنا الهاوي خالد من تراث أقرب إلى اللهجة البدوية.
صندوق زفاف وطلقة بندقية
فتقت طفولة خالد “التعيسة” كما وصفها مكامن الجمال في روحه، واحتفظ في داخله بتفاصيل الأمكنة التي ستشكل فيما بعد مواضيع رسوماته، بدء من عالمه الذي يحيط بذاكرته “البيت الطيني -فانوس الكاز -صندوق العرس -كؤوس وإبريق للشاي -صينية الألمنيوم”.
قصته بدأت مع الألوان الزيتية لرسم مناظر طبيعية خلال المرحلة الإعدادية، لينتقل إلى تفاصيل الوجوه ورسم الشخصيات بالفحم والألوان، عميقاً انتقل إلى اللوحات التعبيرية، وجميعها كان تشترك بالتفاصيل التي يجيد التقاطها، وفي العام ٢٠١٤ بدأ مشروعه بالرسم على مخلفات وفوارغ المقذوفات والطلقات النارية، كان ينقش الورد والياسمين والسلام كما يقول، للتعبير عن سلمية الحراك الثوري الذي سرق.
بين الرسم والعزف، كان شلاش يخط كلماته بمختلف أنواع الخط العربي وأشكاله، ومنذ بداية الشهر الحالي بدأ بدورة لتعليم هذا الفن للطلاب، يقول مرة أخرى أنه سيستمر رغم كل شيء، ما زال الفن غالباً.
ولد خالد شلاش في مدينة سراقب عام ١٩٦٠، وعمل، إضافة لهواياته في الموسيقا والرسم، كمدرس للفلسفة في الثانوية العامة، قبل أن ينتقل لتعليم الأطفال في المراحل الابتدائية، لنحو عشرين عاماً، التحق بركب الثورة، كما مدينته، منذ بدايتها، وعلى هاتفه المحمول سجل كلماته وعزفه وأغانيه، يعبر عن قضيته ويحرك مشاعر الحب والجمال في نفوس متابعيه، ذلك قبل أن يهجّر من مدينته بعد سيطرة قوات الأسد عليها، حينها أصبح الحزن مضاعفاً، يقول، فالأماكن خذلتنا جميعاً، ليست تلك النهاية فما زالت هناك موسيقا في المدينة.