تمثل المساعدات المالية التي يرسلها العمال السوريون في لبنان إلى ذويهم صمام الأمان ووسيلة عيش لكثير من العائلات في مناطق المعارضة السورية، بعد فقدانها لموارد الحياة نتيجة القصف والنزوح، خاصة المواسم الزراعية، وقلة فرص العمل، ومع ارتفاع أسعار الصرف للدولار مقابل الليرة السورية شكلت تلك الحوالات حلّاً لتأمين المستلزمات اليومية التي ترتفع أسعارها في كل يوم، لكن ومع الأزمة الاقتصادية التي يشهدها لبنان انقطعت تلك الحوالات، وبات العامل السوري هناك يحتاج للمساعدة، بعد تسريح آلاف اللاجئين من أماكن عملهم، وارتفاع الأسعار في لبنان الذي رافقه هبوط في سعر الليرة اللبنانية إلى مستويات غير مسبوقة.
الانهيار الاقتصادي وأزمة الأجور
أفادت وكالة فرانس برس، في مقال نشرته في الثامن من حزيران الماضي، أن لبنان يشهد أسوأ انهيار اقتصادي منذ عقود، بالتزامن مع شح الدولار وخسارة العملة المحلية لقيمتها، كما أكد الخبير الاقتصادي اللبناني باسل الخطيب أن الأزمة هي أسوأ وضع يعيشه لبنان منذ تاريخ تأسيسه، وأن الأوضاع تزداد سوءً يوماً بعد يوم في ظل فقدان الخطط الاقتصادية والتخبط السياسي الذي يعيشه.
ويبلغ الحد الأدنى للأجور لدى وزارة العمل اللبنانية ستمائة وخمسة وسبعين ألف ليرة لبنانية أي نحو أربعمائة وخمسين دولاراً حسب سعر الصرف الرسمي للمصرف المركزي، في حين باتت تساوي في السوق السوداء أربعة وثمانين دولاراً ، بعد انخفاض قيمة الدولار الواحد من ألف وخمسمائة ليرة لبنانية إلى تسعة آلاف خلال الأسابيع الماضية.
رافق ذلك الانهيار في سعر الصرف شلل اقتصادي في معظم القطاعات الصناعية والزراعية وأعمال البناء، وتم تسريح آلاف العمال الذين كانوا يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، إذ كان العمال السوريون يشكلون العمود الفقري للعمالة في هذه القطاعات، يقول صابر أحمد والذي يملك متجراً لبيع أدوات البناء والعدد الزراعية والصناعية في مدينة صيدا: “إنه ومنذ انتهاء الحرب الأهلية في لبنان اعتمدت الشركات والمتعهدون على العمال السوريين في مجالات البناء والعمران والقطاع الزراعي والصناعات اليدوية، وذلك لقدرتهم على تحمل المشاق وبنيتهم الجسدية القوية والرضا بالأجور القليلة، ويصفهم الأحمد بـ “النشيطين دون تعب، بيشتغلو كتير وبيرضو بالقليل”.
كذلك زادت جائحة كورونا من أزمة العمالة في لبنان، بعد توقف قسم كبير من المعامل والورشات، وكذلك المطاعم والمقاهي والتي كانت تستقطب السوريين للعمل فيها.
لم نعد نرسل دولاراً واحداً.. وبتنا نبحث عن المساعدة
تحول آلاف السوريين إلى عاطلين عن العمل، في بلد لا يحظى فيه اللاجئون بدعم يعينهم على تحمل أعباء الحياة، يقول عمر عبد المحسن (من مدينة بنش بريف إدلب -٢٩ عاماً) ويعمل في ورشة بناء في بيروت إنه لم يرسل دولاراً واحداً منذ أشهر لوالده الذي يعاني من إعاقة جسدية ويعيش مع والدته وأخواته الثلاث بريف إدلب.
ويخبرنا عبد المحسن أنه كان يوفر شهرياً ما بين مئة وخمسين ومئتي دولار خلال فصل الصيف، ونحو مئة دولار من عمله في الشتاء ويرسلها لعائلته ليتمكنوا من تأمين الاحتياجات الأساسية لقوت يومهم، إذ يعمل والده كبائع للكعك والمعروك على بسطة، وما يجنيه لا يكفي لإطعام شخص واحد على حد قوله.
لا يلقي عبد المحسن بالاً لصعوبات العمل الشاق تحت أشعة الشمس الحارقة، وفي ظل جائحة كورونا، يقول إنه مستعد للعمل في الظروف كافة لمساعدة عائلته، لكن لبنان في حالة شلل، وما يجنيه لا يكفي لتأمين غذائه وإيجار منزله والفواتير الكثيرة المفروضة عليه، يقول “صرت أبحث عن المساعدة لأعمل، أي شيء وفي أي شيء”.
الدولار وكورونا يفتكان بأجور العمال
بسبب جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية، سرّح مطعم الوجبات السريعة في بلدة الغازية جنوب لبنان نحو ٣٠٪ من عماله، وخفض رواتب باقي العمال ومنهم طارق النجار من قرية مرعيان بريف إدلب والذي قال إن قيمة التخفيض بلغت نحو ٢٥٪، إذ يتقاضى اليوم خمسمائة وخمسين ألف ليرة لبنانية بدلاً من سبعمائة وخمسين ألف، وانخفضت قيمتها الشرائية (تبلغ اليوم نحو سبعين دولاراً بدلاً من خمسمائة دولار سابقاً)، وهو ما حال دون قدرته على إرسال أي حوالة مالية لعائلته التي تسكن في أحد المخيمات شمال إدلب، يخبرنا النجار أن حياته وأقرانه اليوم “تحت الصفر”، في إشارة لعدم قدرتهم على تأمين الاحتياجات الأساسية.
وتشترط الحكومة اللبنانية على الشركات ألا يقل عدد العاملين اللبنانيين فيها عن ٦٠٪ من إجمالي الموظفين، وهو ما دفع معظم الشركات للتخلي عن العمالة السورية كخيار أول، يقول محمد علوان والذي سرح من عمله في صناعة المواد البلاستيكية بخبرة تزيد عن خمس وعشرين سنة، إن الشركة التي يعمل بها تخلت عن السوريين وهو ما أشعره بالعجز لعدم قدرته على مساعدة نفسه وعائلته، إضافة لوالديه المسنين، ورفض مفوضية اللاجئين في لبنان مساعدته بحجة أنه “غير مخول لأي أنواع المساعدة”، ويصف هذا الرد بـ “المضحك المبكي في آن معاً”.
ويقول علوان إن أجرة يوم كامل، في حال الحصول على عمل، لا تكفي لشراء نصف كيلو غرام من اللحم على سبيل المثال، أو بعض الخضار التي لا تكفي لصناعة طبق ليوم واحد، فكيف يمكن “لميت أن يحمل ميتاً!”.
كابوس أول الشهر.. نعيش في أماكن لا تصلح للبشر
بدّل كثير من السوريين أماكن سكنهم بأخرى أقل كلفة، بعضهم سكن في خرابات أو غرف حديدة أو دكاكين أو مرآب السيارات، وتخلى كثير منهم خلال الأشهر الماضية عن الكهرباء والهواتف والانترنيت، وقننوا من الغذاء في سبيل تأمين لقمة العيش لهم ولعائلاتهم في الشمال السوري.
ويقول أحمد جمعة إنه انفصل عن عائلته المقيمة في ضواحي بيروت ليقيم في “العاقبية” جنوباً بعد أن وجد فرصة عمل هناك، يعيش حالياً في “شبه غرفة” ويحاول التأقلم مع وضعه الجديد، فـ “أبو علي الي بيلاقي شغل هالأيام”.
ويخبرنا أبو علي أنه يكره الأيام التي تمر بسرعة وصولاً لـ “رأس الشهر” الذي يحمل فواتير كبيرة بدءً من الإيجار وليس انتهاء بأقساط المدارس، وهو ما دفعه لما أطلق عليه “غربلة الحياة”، ويشرحها بالاستغناء عن اشتراك الكهرباء (مئة وخمسون ألف ليرة لبنانية)، واللحم والفروج وكل أنواع الفاكهة، حتى الشاي أحب المشروبات إلى قلبه بات يكرهها، على حد قوله، ويجمل ما يحدث بمقولة “كل شي صار عدو لجيوبنا”.
كل تلك الأشياء التي استغنى عنها الجمعة لم تؤثر في حياته بقدر اضطرار ابنته للعمل بعد عجزه عن مساعدتها، يقول إنها “غصته الكبيرة”، فبعد أن بترت ساق زوجها بإصابة حربية بات غير قادر على العمل، وتكفل بإعانتها على الحياة في مدينة الباب شرق حلب، ومع الظروف الحالية وعدم قدرته على ذلك اضطرت للعمل فـ “المعونة التي تحصل عليها لا تسمن ولا تغني من جوع”، يخبرنا إنه يعرف أن العمل ليس عيباً، لكن عائلتها تحتاجها وهو ما يزيد من ألمه.
صرافو “الأسود” في إجازة
معظم التحويلات المالية كانت تتم عبر وسطاء سوريين بعد تعذر إرسال هذه الحوالات بالطرق الرسمية، ويقدر عبد الحميد موفق (يعمل بتحويل الأموال إلى إدلب) انخفاض نسبة التحويلات المالية بـ ٨٠٪، عما كانت عليه في السابق، بينما يقدرها آخرون ممن تحدثنا معهم بـ٩٠٪.
يقول عبد الحميد إن تحويل مئة دولار يومياً بات “غنيمة”، بعد أن كان يحول آلاف الدولارات يومياً، وتحدث عن مصطلح جديد أطلق عليه “التضامن العوزي” ويشرحه باشتراك عدة أشخاص لإرسال حوالة مالية قدرها مئة دولار يوزعونها على أهاليهم في الشمال السوري.
ولم ترتفع أجور التحويلات المالية وفقاً لغلاء كل شيء، إذ تتقاضى المكاتب نحو ست دولارات عن كل مئة دولار، وتتناقص بحسب حجم المبلغ لتبلغ خمسة وعشرين دولار عن كل ألف دولار.
المفوضيّة تفوّض أمرها، والحل عند الكبار
أكثر من مليون لاجئ سوري مسجل لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في لبنان، وتقدر الحكومة اللبنانية عددهم بنحو 1.5 مليون لاجئ، وتتوقع ليزا أبو خالد(المتحدثة باسم مفوضية اللاجئين) أنّ 75 % من اللاجئين السوريين في لبنان باتوا تحت خط الفقر المدقع، غير قادرين على تلبية احتياجاتهم من الغذاء والدواء والملجأ، مما دفع بعضهم للسكن في المباني غير المكتملة، وأماكن غير صالحة للسكن “غرف حديد، خرابات ومرائب ومنازل مهجورة”، ما دفعها لتوجيه نداء للمجتمع الدولي والدول المانحة للتعاضد مع المفوضية، وتحمل مسؤولياتهم تجاه اللاجئين، وتشكيل هيئة إنقاذ أممية للعمل على احتواء الوضع.
الحكومة لا ترحمنا، ولا بتخلي الرحمة تنزل علينا
نفذ اللاجئون السوريون عدة وقفات احتجاجية على تردي أوضاعهم، وحرمانهم من المساعدات المالية والعينية، أمام مراكز المفوضية في طرابلس وبيروت وصور، دون أي نتائج ملموسة حتى الآن، ويتذرع مسؤولو المفوضيّة بحجة أن الأمور خارج نطاق قدرتنا وأن الحل بيد المجتمع الدولي كدول مانحة، ناهيك عن قمع الحكومة لاحتجاجاتهم بحجة الوقاية من كورونا، ولمنع إحداث بلبلة على حد زعمها كي لا يصل صوتهم، لتكتمل قائمة المعاناة.
محمد كنعان