منذ أيام أنهت آسيا أصعب رحلة من رحلات علاجها من مرض السرطان والتي بدأت قبل ثلاث سنوات، لتطوي فصلاً جديداً من فصول معانتها الطويلة.
زواج مبكر وحظ عاثر
تركت “آسيا عثمان” 28 عاماً مدرستها منذ المرحلة الابتدائية، وخرجت للعمل بالمياومة “الفاعل”، مثل عشرات الفتيات اللواتي فرضت عليهن الحياة دخول مجال العمل مبكراً، نتيجة ظروف الحياة الصعبة التي تعيشها عوائلهن، بعد فترة انتقلت للعمل في أحد معامل المواد الغذائية، على أمل أن تساعد عائلتها الفقيرة التي تضم أحد عشر فرداً.
تزوجت آسيا حين بلغت ثلاثة عشر عاماً من رجل يكبرها بخمسة عشر سنة، لكنها وجدت في هذا الزواج فرصة للخلاص من العمل المتعب الذي أرهق طفولتها. تقول آسيا إنها كانت سعيدة بعريسها “عبدو” فقد كان أباً و حبيباً و زوجاً عوضها عن طفولتها المفقودة، عاشت معه سبع سنوات كانت سعيدة خلالها وأنجبت ثلاثة أطفال، لكن معاناتها عادت لتظهر من جديد، فالطفلة التي كانت تعمل لتساعد عائلتها تحولت اليوم لأم مسؤولة عن إعالة أطفالها، بعد فقدان زوجها الذي وجد مقتولاً على طريق جبل “باش مشلش” بمدينة حارم سنة 2013.
أنهت آسيا عدتها على زوجها وبدأ والدها بإقناعها بالزواج من شقيق زوجها “بسام” لأن وجودها وإياه في منزل واحد غير مقبول من وجهة نظر المجتمع المحيط، رفضت آسيا هذا الزواج في بداية الأمر لكن ضغوط العائلة ومسؤولية الأولاد الصعبة دفعاها للقبول، إذ يعاني أولادها الثلاثة من أمراض مختلفة، “جمانة” أكبرهم سناً تعاني من زيادة شحنات كهربائية، وأختها “بيسان” مريضة بضمور في الدماغ ولديها فتحة في القلب لا أمل في علاجها، أما أخوها الأصغر “أحمد” فيتعرض من فترة لأخرى لنوبات صرع (الوقوع في الساعة).
عاشت آسيا مع زوجها الجديد أكثر من سنتين، حملت معها كثيراً من المتاعب إذا اعتادت على تصرفات زوجها السابق الذي كان يستوعبها ويتحمل معاناتها وهذا مالم يتمتع به بسام. وبعد مضي سنة ونصف السنة من زواجهما حملت “آسيا” من “بسام”، لكنه توفي بعد ثمانية أشهر من حملها، لتنجب بعد وفاته طفلتها الجديدة “بسمة” والتي كانت الذكرى الباسمة الوحيدة في تجربتها الثانية والتي تأملت أن تتبدل حياتها بعد قدومها.
معاناة آسيا تكتمل بإصابتها بالسرطان
في الثالث عشر من كانون الثاني عام ٢٠١٧م تعرض سوق الأتارب لثلاث غارات جوية، قتل وجرح فيها نحو مئة وستين مدنياً، وأصيبت “آسيا الأمين” يومها بنوبة هلع نتيجة استهداف الطيران الحربي لمكان قريب من منزلها، إضافة للأثر الذي تركته مشاهد الضحايا وأجسادهم المتناثرة في المكان.
لم تقتل تلك الغارة روح آسيا لكنها تركت لديها كثيراً من الأوجاع التي تعيشها حتى اليوم، إذ أصابها تسرع في عدد ضربات القلب ثم انخفاض في الوزن، ونزيف متقطع، وآلام مستمرة في الظهر، ناهيك عن الكوابيس التي باتت رفيقاً لها في كل ليلة.
عوارض التعب والمرض المستمر دفعت آسيا للخضوع لفحص طبي، في مشفى بلدة “كفر كرمين” قرب الأتارب للكشف عند الطبيبة النسائية، وبالمصادفة كانت الطبيبة “سناء المعري” التي تعمل بمركز علاج السرطان في مشفى “كفرلاته” بجبل الزاوية متواجدة في المشفى، كشفت عن آسيا وبعد إجراء عدة تحاليل طبية تبين وجود كتلة سرطانية بالرحم، إضافة لإصابتها بمرض فطري أدى لانتشار فيروس خطير بجسدها نتيجة الإهمال الصحي.
خضعت آسيا بعد الفحص لعملية استئصال وتجريف للكتلة وما حولها. لكنها لم تتمكن من الخضوع لجرعات العلاج الكيميائي لأن الفايروس قتل واحداً وعشرين عنصراً من الفيتامينات والمعادن الأساسية في جسدها، ويجب أن تستعيض عن الجرعات بثمانين حبة من أحد أنواع الأدوية والتي لم يكن تأمينها سهلاً على آسيا، لكن أحد أصدقاء زوجها تمكن من تأمين عشرين حبة عن طريق إحدى المنظمات، وتبرع بثمن جزء آخر من الحبوب، في حين نجحت آسيا بتأمين ثمن باقي الحبوب، التي لم يكن تناولها أمراً سهلاً، إذ كانت آسيا تفقد الوعي بعد كل حبة، ويجب أن يبقى أحد بجوارها حتى تصحو.
أكد الأطباء الذين قاموا بفحص آسيا على شفائها لكن جميع الأعراض السابقة ماتزال موجودة، ما دفعها لإجراء فحوصات جديدة ليتبين أن الورم أعاد انتشاره في الرحم، وهنا كانت آسيا أمام خيارين إما أن تنتقل للعلاج في تركيا أو إلى دمشق، وهو الخيار الذي اتفقت عليه مع أقاربها.
مواجع وخطورة ترافق كل رحلة علاج
في دمشق أعاد الطبيب المعالج الصور والتحاليل الطبية ليتمكن من تشخيص المرض بصورة أدق، ثم قرر أن تخضع آسيا لتسع جرعات كيميائية، لكن جسدها الضعيف لم يحتمل تلك الجرعات ونقلت بعد أول جرعة إلى قسم الإنعاش، ما دفع الطبيب للاعتماد على جلسات الأشعة وبدأت بالخضوع لجلسة كل ثلاثة أشهر، ما يعني السفر إلى دمشق بشكل متكرر وتحمل تكاليف ومخاطر الطريق.
الأدوية الكثيرة التي تناولتها آسيا أثرت على عمل الكلية نتيجة انخفاض المعادن في جسمها، وخسرت الكيلة 75% من وظائفها، فأخبرها الطبيب بضرورة استئصال الكلية، لكن المريضة لم توافق على اقتراح الطبيب وصبرت على آلامها فترة من الزمن، ليخبرها الطبيب بعد فترة بوجود شريحة يتم زراعتها ضمن الكلية وتعمل على تحسين وظائفها خلال سنة، لكن تكلفة العملية تصل إلى مليون وسبعمئة ألف ليرة سورية، وهو مبلغ يستحيل على آسيا تأمينه، لكن إحدى الجمعيات أخبرتها بأنها مستعدة لدفع ثمن الشريحة وتبرع الطبيب بإجراء العملية مجاناً ولم يكن على آسيا إلا أن تسافر إلى دمشق.
في هذه الأثناء كانت قوات الأسد قد بدأت حملتها العسكرية الأخيرة على إدلب وكانت آسيا وعائلتها من ضمن مئة وعشرين ألف نازح فروا من ريف حلب الغربي باتجاه مدينة جرابلس “بحسب إحصائية لفريق منسقو الاستجابة”.
تسارع الأحداث دفع آسيا لاتخاذ قرارها بالسفر إلى دمشق رفقة أولادها وشقيقتها وأمها، لتجري العملية وتقيم فترة النقاهة هناك إذ لا تعتبر مناطق المعارضة مناسبة للإقامة في هذه الفترة نتيجة الأعمال العسكرية وضغط النازحين في المناطق شبه الآمنة.
رحلة دمشق الأكثر صعوبة
سافرت آسيا قبل أسرتها لإجراء الفحوصات اللازمة ولتكون مستعدة مع وصولهم لإجراء العملية، لكن وبنفس اليوم الذي وصلت فيه مدينة حلب أغلقت الحدود والمعابر بسبب انتشار وباء كورونا، وتحاصرت العائلة بمنطقة (العون) الخاضعة لقوات سوريا الديمقراطية.
بقيت عائلة آسيا في منطقة العون دون مأوى رغم ظروف الشتاء القاسية، مع تقييد في حركتهم إذ يحتاجون للحصول على إذن لأي حركة حتى لو كان العثور على الطعام، إضافة لجملة من الابتزازات التي تعرضت لها العائلة مع العالقين في المنطقة ولا سيما السيدات، ما دفع عائلة آسيا لدفع مبلغ ٣٠٠ ألف ليرة سورية للسماح لهم بالعودة إلى مدينة منبج.
استمر انتظار آسيا لأهلها شهراً كاملاً وحين يئست من قدومهم قررت إجراء العمل الجراحي بعد أن أخبرها الطبيب بأنها فرصتها الوحيدة للنجاة.
أجرت آسيا عمليتها وخضعت بعدها لثلاثة جلسات أشعة، وعادت إلى حلب لتنتظر فتح المعابر من جديد وتلتقي بعائلتها في منبج.
في تلك الأثناء طلب منها الطبيب إجراء بعض الصور والتحاليل، وكانت المفاجئة كبيرة حين أخبرها أن النتيجة إيجابية وتعداد كريات الدم في جسمها مطابق لجسم أي إنسان سليم، ولم تعد بحاجة لأي علاج.
عودة آسيا لعائلتها
نقلت آسيا خبرها السار لوالدتها، والتي لم تصدق في المرة الأولى لظنها بأن آسيا تمازحها، تقول أم آسيا: لا أتمكن من وصف فرحتي في تلك اللحظات، تمنيت أن تكون بقربي لاحتضنها بعدد الحقن وأكياس السيروم وحبات الدواء التي تجرعتها كل تلك المدة”
كان خبر شفاء آسيا جرعة أمل قوية لعائلتها أنستهم كل المعاناة التي عاشوها على المعابر التي حالت دون وصولهم إلى ابنتهم.
سارعت “آسيا” بتجهيز حقيبتها للعودة لأولادها رغم التهاب مكان العملية لأنها علمت أن معبر الرقة مفتوح لمدة يوم واحد، وصلت لمعبر الفرقة الرابعة ثم معبر الرقة وهناك بين المعبرين احتجزت مع باقي المسافرين لمدة ثلاثة أيام قضتها آسيا على الطرقات وبين الصخور، وفي النهاية تم فتح طريق وعر لتهريبهم إلى مدينة الطبقة في الرقة شريطة دفع25 ألف ليرة عن كل مسافر.
وصلت آسيا إلى الطبقة ونزلت آسيا عند عائلة لا تعرفها، لكنهم عملوا على مساعدتها، وقاموا بتزويدها بأوراق واحدة من نساء العائلة للمرور، وتكفل صاحب البيت بأجرة السيارة التي ستنقلها برفقته إلى منبج في رحلة استمرت ثلاثة أيام، لتحتضن آسيا صغارها بعد غياب طويل وقد تماثلت للشفاء.
تعيش آسيا اليوم مع أطفالها وكلها أمل بحياة أفضل، تخبرنا أن الحياة كانت قاسية وعادلة معها، وإن كانت آسيا قد وجدت علاجاً فما يزال آلاف الأشخاص يعانون من مرض السرطان في مناطق المعارضة، بعضهم يحاول الوصول إلى تركيا، وآخرون يخضعون للابتزاز وتجار الطرق والحواجز العسكرية ودفع الإتاوات للوصول إلى مشافي دمشق، مع غياب إمكانية العلاج في هذه المناطق.