تنزل ربات المنازل منذ أيام إلى كروم العنب لقطاف أوراقها قبل أن تتخشب، أملاً بالحصول على وجبة طازجة من “ورق العنب” أو كبسها في “مرطبانات” لمؤونة الشتاء، أو بيعها في الأسواق باعتبارها أحد الأصناف الهامة التي تتواجد في معظم البيوت السورية، وبكميات كبيرة.
لم يكن بيع ورق العنب شائعاً في القرى والأرياف، بل كانت ربات المنازل يعتمدن على كرومهن أو كروم جيرانهن لتأمين المؤونة اللازمة، قبل أن ترتفع أسعارها لتصبح أحد المواسم التي يعتمد عليها أصحاب الكروم في حياتهم المعيشية، وارتفعت أسعارها لتزيد عن سعر ثمار العنب وتغدو أكثر جدوى للمزارعين.
ويعتبر ورق العنب من المؤن الرئيسية في البيوت السورية، تخزنه النساء لفصل الشتاء، تخبرنا السيدة أم رائد (وهي ربة منزل نازحة تعيش في مدينة عفرين) إنها بحثت بين أكوام ورق العنب المنتشرة على البسطات في سوق المدينة للحصول على أوراق طازجة وطرية، وهي المرة الأولى التي تضطر فيها لشرائها، إذ كانت تعتمد سابقاً على عريشة العنب في منزلها الذي هجرت منه في بلدة الهبيط بريف إدلب، شأنها شأن معظم العائلات في ريف إدلب.
وتعد منطقة عفرين مركزاً هاماً لتأمين احتياجات سكان مدينة حلب وريفها من ورق العنب، سابقاً، وتشتهر بإنتاج أنواع عديدة منه مثل “الهفنيدي، الحمصي، دوكلفان حلواني والبلدي..”، وكان إنتاجها مفضلاً لدى ربات المنازل في مدينة حلب، إذ تخصص له محلات تجارية كاملة في أسواق الهال، ويقوم التجار بضمانه والتوصية عليه قبل أشهر من قطافه، وخلال السنوات التي كانت تسيطر فيها قوات سوريا الديمقراطية على عفرين نشطت تجارة ورق العنب من الأراضي التركية إلى الداخل السوري، إلا أنها تراجعت في العامين الماضيين لأسباب كثيرة أهمها ارتفاع الكلفة وعدم القدرة على المنافسة من حيث الجودة مع تلك القادمة من عفرين، إضافة للمدة الزمنية التي تحتاجها “برادات” الشحن لإيصال المنتج عبر المعابر ما يعرض قسماً منها للتلف.
معظم العاملات في قطاف ورق العنب من النساء، تقول أم “جوان” وهي سيدة أربعينية من مدينة عفرين، وذلك لخبرتهن بهذا العمل الذي يحتاج إلى مهارة في القطاف وتطبيق الأوراق بطريقة “الكفوف”، وهي طريقة متبعة بصف أوراق العنب بطريقة متراصة فوق بعضها البعض، حفاظاً عليها من التلف والتمزق، وكذلك كيلا تأخذ حيزاً كبيراً خلال “تموينها” في المرطبانات.
وتقول أم جوان إن لقطاف ورق العنب توقيتان (صباحي ومسائي)، وتتوخى العاملات الأوقات الباردة والرطبة للقيام بعملهن، وذلك للحفاظ على نضارة الأوراق لفترة أطول، وعدم تعرضها للاصفرار والذبول.
تصف أم جوان ما تقوم به بـ “رحلة العمل الممتعة”، وذلك لاجتماعها بصديقاتها خلال القطاف وتبادل الأحاديث، إضافة للمردود المادي الذي يساعدهن على تحمل أعباء الحياة، إذ تتقاضى العاملات نحو أربعمائة ليرة سورية مقابل قطاف كيلو غرام واحد، وتتمكن المرأة التي تمتلك الخبرة من قطاف عشرة كيلو غرامات يومياً. كذلك تحصل العاملات على مؤونتهن من الكروم التي يقطفنها، ويخترن أفضل الأنواع لبيوتهن.
ويعود موسم ورق العنب بمردود مادي جيد على أصحاب الكروم، إذ يصل إنتاج الدونم الواحد نحو نصف طن من الأوراق، ويقول بعض أصحاب الكروم إنه أكثر جدوى من ثمار العنب، وذلك لما يصيب الثمار من تلف نتيجة الأمراض الفطرية والحشرية وانخفاض في السعر في بعض الأحيان، كذلك من الممكن أن لا تثمر العريشة نتيجة الظروف المناخية وهو ما لا يكون في حالة الورق الذي ينمو في الظروف كافة.
وارتفعت أسعار الورق في العام الحالي، إذ يباع الكيلو غرام بأسعار تتراوح بين (٨٠٠ -٢٠٠٠ ليرة)، بحسب نوعه وحجمه ونضارته، ويرجع من تحدثنا معهم من بائعين، ومنهم أبو حسن (بائع ورق عنب في مدينة جنديرس) سبب الزيادة السعرية لانخفاض قيمة الليرة السورية، وخسارة مناطق واسعة كانت تشتهر بزراعة العرائش كـ “خان شيخون وريف معرة النعمان الشرقي”، إضافة لكميات ورق العنب المنتجة في كل موسم.
ويصف أبو حسن إقبال السكان على شراء ورق العنب بـ “الجيد” في العام الحالي، إلا أن الزبائن يتذمرون من ارتفاع الأسعار، وهو ما دفع كثير من العائلات إلى تقليل كميات المؤونة السنوية، تخبرنا أم رائد وهي ربة منزل تسكن في جنديرس إنها اكتفت بخمسة كيلو غرامات هذا العام، وهي ربع الكمية التي كانت “تمونها” في الأعوام السابقة، نتيجة الأحوال الاقتصادية، إلا أنها لا تستطيع الاستغناء كلياً عنه في مائدتها.
لا يخلو شتاء السوريين من وجبات ورق العنب الغنية بالفيتامينات المفيدة لسلامة الجهاز العصبي (ب ١ -٦ -١٢)، والأملاح المعدنية والحديد والفوسفور، بحسب دراسات لخبراء التغذية، ويحضر في سوريا بأطباق مختلفة كـ “اليبرق” الملفوف بورق العنب والمحشي بالأرز واللحم، و “اليالنجي” المحشو بالأرز والخضار، كما تشتهر قرى إدلب باستخدامه في طبق تقليدي يطلق عليه اسم “التبلة” وهي مكونة من البرغل والبندورة والبقدونس مع البصل الأخضر.