لم تثنه أيام النزوح التي يعيشها في مخيم الكرامة على الحدود السورية التركية عن مواصلة توثقيه لأحداث الثورة السورية، والتي اعتاد أرشفتها منذ انطلاقها ومشاركته بأحداثها في بلدته “كفرومه” بريف إدلب الجنوبي.
أمام خيمته يجلس الحاج أبو محمد وبجانبه كيس مليء بكراسات وأوراق مختلفة المقاسات والألوان، تركت الأيام أثرها عليها كما فعلت بوجه كاتبها الذي دوّن فيها أحداث الثورة السورية خلال سنوات طويلة، وتمكن من توثيق نحو ستمائة واثنتين وستين مجزرةً ارتكبتها قوات النظام والميليشيات الموالية له بحق المدنيين، إضافة لتوثيق نحو ثلاثة آلاف ومئتين وخمسة وأربعين شهيداً بالاسم، ناهيك عن توثيقه لكافة الانتصارات التي حققتها فصائل المعارضة خلال تلك السنوات، وأسماء الجمع التي كانت تطلق على المظاهرات.
لا تشكل الخيمة الضيقة التي يعيش فيها أبو محمد مناخاً مناسباً للتوثيق اليومي، لكنه مستمر بعمله خوفاً من ضياع بعض الأحداث من ذاكرته، إذ اعتاد سابقاً على قضاء معظم وقته في غرفته بشكل منفرد منشغلاً بتدوين الأخبار التي تعصف في البلاد، إذ كان يجد في هذا المكان راحة نفسية حصل عليها من خلال تفريغه لمشاعره وأفكاره التي جالت بذهنه لسنوات طويلة خلال عمله كحارس ليلي في ثانوية كفرومة، إذ لامس في أوراقه المساحة الآمنة التي بحث عنها منذ أربعة عقود.
فقد أبو محمد اثنين من أولاده خلال سنوات الحرب، لكن ذلك الفقد لم يكسر من عزيمته وانتمائه للثورة التي كان ينتظرها، إذ عرف بمناهضته للنظام السوري منذ شبابه وكان من أوائل الأشخاص الذين شاركوا في المظاهرات السلمية وطالبوا بالحرية.
لم تفلح سياسة النظام القمعية في منع أبي محمد من المشاركة في مجالات الثورة حيث بدأ بتدوين تفاصيلها السياسية والاجتماعية والعسكرية كافة، ليأخذ منحى منفرداً بعيداً عن مكاتب التوثيق والمؤسسات الأرشيفية.
في بداية الثورة وخلال تواجد قوات الأسد في المنطقة عمد أبو محمد إلى تدوين الأحداث التي يتمكن من جمع تفاصيلها، وإخفاء أوراقه في مكان آمن خوفاً من المداهمات التي كانت شبه يومية في ذلك الوقت، لكن بعد سيطرة فصائل الثوار على مدينة كفرنبل في آب 2012 وانسحاب حواجز قوات الأسد من المنطقة أخرج أبو محمد أوراقه وبدأ بعمله بحرية أكبر، حيث أعاد فرزها وترتيبها تبعاً لتواريخها لتسهل عليه مهمة الوصول إلى أي معلومة يريدها.
خلال السنوات الماضية كان أبو محمد يلجأ إلى الأحراش القريبة من بلدة كفرومة ليجلس خالي الذهن مع أوراقه ودفاتره، وهذا ما فقده خلال إقامته في المخيم، فازدحام الخيام والضوضاء المستمرة تمنعه من ممارسة عمله بالشكل الذي يريد.
في مدونات أبي محمد ستجد توثيقاً لانتهاكات ومجازر النظام، إضافة لأوراق عن هموم الناس اليومية ومشاكلهم ومعاناتهم، لتحاكي مدوناته الواقع السوري في مناطق المعارضة كالغلاء والفقر والبطالة، وما رافقها من تحكم للقوى المسيطرة عن طريق فرض الضرائب والإتاوات على الأهالي الذين باتوا تحت خط الفقر.
لم يكتف أبو محمد بتوثيق الأحداث، بل كتب عدداً من القصائد الداعمة للثورة بأسلوب بسيط ولهجة ريفية، متبعا نمط الكوميديا السوداء ليعبر عن القضايا التي يعيشها المواطن.
يقول سليم الزيدان “ناشط إعلامي” إن أوراق أبو محمد تعتبر توثيقاً جيداً لأحداث المنطقة خلال السنوات العشر الأخيرة، وقد تمثل مصدراً خصباً لدراسة وتحليل هذه الفترة خلال الأيام القادمة كما تساهم بالحد من تدخل الجهات الراغبة بتشويه الحقائق في المستقبل”.
عمل أبو محمد لسنوات طويلة بعيداً عن الإعلام، وأخفى حقيقة توثيقه لأحداث المنطقة عن كثير من الناس، ويقول من تحدثنا معهم من أقاربه إنه تميز بمتابعته اليومية للأحداث، ليحصل على مادة مناسبة لأرشيفه، في حين كان يسعى للوصول لبعض الأخبار بشكل غير مباشر، ودون أي يعلم الناس أنه يسأل بهدف التوثيق، ويرى أبو محمد أن العمل الذي يقوم به واجب عليه في سبيل خدمة الثورة التي منحته جزءً كبيراً من حريته المسلوبة، وسيأتي اليوم الذي تخرج به تلك الأوراق من مكمنها لتساهم في فهم تاريخ المنطقة التي يعيش فيها.