شدتني رائحة بتلات الوردة الدمشقية المركونة وسط واحدة من بسطات الخضار في إدلب لأقف عندها، لمست أوراقها اليابسة قبل أن آخذ نفساً عميقاً أجبرني على إغلاق عيني لألتذ بطعم شراب الورد والمربى الذي رافقني طيلة سنوات حياتي التي قضيتها في بلدة “رنكوس” بريف دمشق، والذي ما زال طعمه حاضراً حتى اللحظة رغم سنوات النزوح التي أجبرت فيها على مغادرة بلدتي تاركة شتلات الورد وعبوات المربى والشراب وحيدة هناك.
وأنا أملأ بعض أكياس الورد من البائع لصناعة المربى، كنت أفكر بعائلتي والأثر الذي سيحدثه “صيدي الثمين”، كما خطر ببالي أن أصفه، عند دخولي إلى المنزل. لا يمكن التكهن بذلك، إلا أن مشاعري المتناقضة بين الحزن والفرح والدمعة التي وجدت مكانها على خديّ ومسحتها بيدي التي التقطت بعض أزرار الورد، كانت كفيلة بوصف ما يمكن أن يحدث. هي الذاكرة ولكلّ مكان تفاصيله، والوردة الدمشقية ذاكرة القلمون الأكثر حضوراً.
الوردة الشامية أو الجورية أو البلدية كلها مسميات للوردة الدمشقية، والتي عرفت بهذا الاسم منذ سنوات طويلة، والتي انتقلت إلى الدول الأوربية من بلاد الشام خلال الحملات العسكرية، وتعتبر من أهم أنواع الورد القديم حيث ذكرها عدد من المؤرخين والشعراء في كتبهم وقال عنها شكسبير في إحدى مسرحياته ” “جميلة كجمال وردة دمشق”.
وتعتبر هذه الوردة من الزهور المهجنة غير الأصيلة، وقد أثبت فحص الحمض النووي أنها تتألف من ثلاثة أنواع من الورد هي وردة المسك Rosa Moschata والوردة الفرنسية Rosa Gallica ووردة أخرى من آسيا الوسطى هي Rosa fedtschenkoana، أي أنها لا تملك موطنًا، ولا يعرف المكان الذي هُجنت فيه على وجه التحديد. وأدرجت الوردة الدمشقية ضمن قائمة التراث الإنساني اللامادي في منظمة الأمم المتحدة “اليونسكو” نهاية العام ٢٠١٩.
ليست بلدة “رنكوس” الأشهر في زراعة الوردة الدمشقية، إلا أنها و “القسطل وعسال الورد وسرغايا”، إضافة لبلدة “المراح” التابعة لمنطقة النبك، أكثر المناطق شهرة بزراعتها، لما تحققه من مردود اقتصادي جيد، كما أن طبيعة الأراضي الزراعية في المنطقة أسهمت في انتشار هذه النوع من الزراعة، إذ تحتاج شتلات الوردة الدمشقية لمنطقة مرتفعة عن سطح البحر، غنية بالمياه والأمطار، لتنمو بالشكل الأمثل، وهو ما أهّل بلدات القلمون لتكون المكان الأنسب لزراعة الوردة الدمشقية التي زاد انتشارها منذ نحو ثمانين سنة، وباتت الموسم الأساسي لعدد من البلدات، أهما “المراح” التي ارتبط اسمها بالوردة الدمشقية، يوجب ذكر إحداهما الأخرى. باختصار “كانت بلدات القلمون علامة تجارية فارقة للوردة الدمشقية”، بحسب من تحدثنا معهم من أهالي البلدة.
التهجير والقصف وهجران الأراضي الزراعية أضعف مواسم الوردة الدمشقية في هذه البلدات، وقدرت تقارير إخبارية هذا التراجع بالنصف، إذ كانت تضم بلدات القلمون نحو أربعة آلاف دونم من البساتين المزروعة بالوردة الدمشقية، تناقص في العام ٢٠١٩ إلى نحو ألفي هكتار، بينما شهد العام الحالي عودة لإنتاج هذه الوردة، إذ تقدر المساحة المزروعة بها في الموسم الحالي بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة دونم في قرية “المراح” وحدها، تنتج، بحسب التوقعات، ما بين خمسين إلى ستين طناً.
تخرج شيماء رفقة عائلتها بشكل يومي في هذه الفترة لقطاف موسم الوردة الشامية في مزرعتهم ببلدة المراح بالقلمون الشرقي إذ يبدأ الموسم من بداية شهر أيار وحتى منتصف حزيران. ويحرص العاملون بهذا المجال على قطاف الموسم في ساعات الصباح الأولى، ما بين الخامسة والتاسعة صباحاً، حيث تحافظ قطرات الندى العالقة فوق الزهور على مخزون الوردة من الزيت العطري قبل أن يتطاير بفعل أشعة الشمس.
ويخبرنا والد شيماء “إن الموسم هذا العام كان وافراً بسبب الأمطار الغزيرة التي عمت منطقة ريف دمشق، ولأن شجيرة الوردة من النوع الشوكي و تزرع في الأراضي البعلية فإنها تعتمد على مياه الأمطار، متوقعاً أن تنتج أرضه المؤلفة من أربعين دونماً حوالي طن ونصف الطن من الورد الشامي.
يقوم الأهالي بعد قطاف الوردة بفرز البتلات المتفتحة عن الأزرار الصغيرة، لتجفف تحت أشعة الشمس، وتباع كنوع من أنواع “الزهورات” في أسواق البزورية بدمشق.
واكتسبت الوردة الدمشقية أهميتها من فوائدها العطرية والطبية والغذائية والتجميلية، خاصة للبشرة، وكذلك تستخدم كـ “منكه” لبعض الحلويات والأطعمة.
أشواك الوردة الناعمة والكثيفة لم تثن أخت شيماء الصغيرة ذات التسع سنوات عن مشاركة أهلها في موسم القطاف، لاسيما أنها ستحصل في نهاية اليوم على عقد مصنوع من بتلات الورد لتتزين به . بينما تجمع “أم شيماء” الأزهار المتفتحة في ثوبها الفضفاض بخفة ونشاط، غير مكترثة بالأشواك الناعمة التي خرشت يديها، ثم تضعها في السلال البلاستيكية تمهيداً لنقلها إلى المصنع لاستخراج الزيت أو ماء الورد الطبيعي، إذ تكون الفائدة الاقتصادية أكبر، حيث يحتاج إنتاج ليتر واحد من الزيت إلى ثلاثة أطنان من الورد ويصل سعر الغرام الواحد من الزيت العطري إلى نحو مئتي دولار، لذلك يصفه أهالي بلدة المراح بأنه “أغلى من الذهب وأبقى من النفط”.
يستخرج ماء الورد بعملية التقطير عن طريق جهاز محلي الصنع اسمه “الكركة “، ويحتاج لتر واحد من ماء الورد إلى كيلو غرام من بتلات الوردة الدمشقية، بينما يعمد بعض المزارعين لتجفيف أزهار الوردة وبيعها، إذ يصل سعر الكيلو غرام من الورد اليابس نحو ألفين وخمسمائة ليرة في دمشق، وسعر الزر اليابس نحو سبعة آلاف ليرة، وتحتاج لنحو أربعة كيلوغرامات من الورد للحصول على كيلو غرام واحد من الورد اليابس.
تقوم غالبية نساء “المراح” بصناعة مربى الورد، وشراب الورد، والذي يتمتع بعدد من الفوائد الطبية لغناه بفيتامين “c” وتخبرنا “أم شيماء” أنها تحتاج إلى ثلاثة كيلو غرامات من بتلات الورد لصنع كيلو غرام واحد من مربى الورد، حيث تضيف للبتلات ليتراً واحداً من الماء مع كمية مناسبة من السكر وتغليهم جيداً لتحصل على المربى.
وعمدت قوات النظام بعد سيطرتها على بلدات القلمون لقطع شجيرات الورد والأشجار المثمرة، خاصة في بلدة رنكوس، كما تعرضت بعض البساتين للجفاف وقلة العناية، بسبب نزوح أصحابها، كذلك ارتفاع كلفة العناية بها. كما أجبر القصف الذي طال هذه المناطق والمعارك الدائرة بين فصائل المعارضة والنظام قبل سيطرة الأخيرة عليها، السكان على هجران أراضيهم ما تسبب بانخفاض انتاجها، وألغي المهرجان السنوي للوردة الدمشقية والذي كان يقام في “المراح” كل عام.
لا تنتشر زراعة الوردة الدمشقية في باقي المحافظات السورية، سوى في بعض المناطق كبعض قرى ريف حلب، وفي إدلب تتواجد الوردة الدمشقية في بعض قرى ريف جسر الشغور على شكل بساتين صغيرة أو تزرع في الحدائق المنزلية، وتباع على بسطات الخضار وفي بعض محلات العطارة والأعشاب.
نقدت البائع ثمن الورد الذي اشتريته بعد أن اتفقنا على سعر ألف وخمسمائة ليرة للكيلو الواحد، لأعود أدراجي إلى المنزل، أردت أن أخبر عائلتي أني وجدت وردتنا الدمشقية على بسطة خضار تحتل نصف مكان بجوار “ورق العرائش”، إلا أني احتفظت بها لنفسي وأنا أضيف السكر للمربى تحيطني عائلتي من كل اتجاهات، ليبدأ حديث الذكريات والرائحة التي ملأت المكان.