لا يمرّ عيد دون إخضاع الوقت للذاكرة، يتداخل فيها مزيج من الحزن والفرح، تذكّر للأيام الماضية والأشخاص الذين فقدناهم أو المظاهر التي تلاشت والتي كانت يوماً نكهة العيد ولونه.
على باب المنزل وفوق “مصطبة” من الاسمنت بدرجات ثلاث كنا ننتظر قدوم والدنا، يحمل في يديه المتعبتين حقيبتين قماشيتين صنعتهما أمي من أكياس الطحين، ككل شيء في المنزل كان من صناعتها، ستائر النوافذ، أصص الزريعة، رفوف المطبخ، حمالات الطعام القماشية كيلا تحترق أصابعنا، أغطية الطاولات من “الكناويشة”، الآيات القرآنية المشغولة بالخرز الأصفر والتي تتصدر الجدران، أغطية الفرش المنضدة على المحمل عليها أشكال لحيوانات متقابلة وفرسان وأميرات بألوان حمراء وخضراء، دهان البيت، والأهم من ذلك صناعة العيد.
في حقائب والدي، طحين وبعض اللحم وكيس من الجوز وتوابل بأسماء شهية -يانسون وشمرا وعصفر وحبة سودا وجوزة الطيب، تبدو كقصائد- وبعض الألبسة والأحذية التي يتفق على شرائها مع والدتي، وقطع من القماش، وبعض الفاكهة، وضيافة العيد التي كانت تقتصر على ثلاثة أنواع رافقتنا طويلاً (شوكولا ميليا -وأكياس من كرميلا ناشد أخوان، وبسكويت مغطس بالشوكولا أيضاً).
تبدو تلك الأشياء وكأنها “مواد خام” لا يمكن بها ومعها صناعة العيد، قبل أن تبدأ أمي بتنفيذ ما خططت له، صباحاً تبدأ بأخذ القياسات بالشبر والأصابع، كان طول تنورتي عندها (ثلاثة أشبار وأربعة أصابع).
في مخيلة أمي ترتسم المقاسات والتفصيلات لتبدأ بقص القماش وخياطته على ماكينتها اليدوية “سينجر”، بغطائها الخشبي، ونحن حولها ننتظر ما ستفعل بنا، وفي كل مرة كانت تخبرنا إنها كانت تضم الإبرة وهي “مغمضة”، وتشكو الزمن الذي اضطرها للتدقيق مرات عديدة قبل أن تضم الخيط، نحاول أن نساعدها بذلك وغالباً ما كنا نفشل. تصنع أمي لنا لباساً جديداً للعيد، تضيف عليه بعض الرتوش أو ما كانت تطلق عليه “التحلايات”، وتعيد تدوير بعض الألبسة القديمة التي ضاقت على مقاساتنا، قسم منها نورثه بحسب تراتبية الأعمار، أما القسم الآخر فتستفيد أمي منه باستخلاص “الاكسسوارات من أزرار وسحابات..”.
مساء تبدأ أمي بصناعة كميات كبيرة من “الكعك والمعمول والبرازق”، بعضه محشو بعجوة وآخر بالجوز، أما “كعك الزرد” غير المحشو، فسيبقى رفيقنا لأيام طويلة بعد أن تضعه على شكل قلائد وتعلقه على الجدران لصباحات الشتاء القادم.
ليلاً تدخلنا فرادى وجماعات إلى الحمام، تقسو علينا بـ “كيس حمام صنعته أيضاً بنفسها” وصابون الغار، وقبل أن ننام تكون قد جهزت خلطة من الحناء تضعه في أيدينا وتربطه بقماشة كيلا يتسخ الفراش.
قبل أن نستيقظ تكون “حلة =وعاء كبير” من “الرز بحليب” على النار، وصحون كثيرة فارغة في انتظار أن تسكبه ووضعه في الثلاجة، نسيت أن أخبركم عن حملة التنظيف الكبيرة التي نخوض غمارها قبل أيام من العيد، والتي تشمل غسيل كل شيء تقريباً، من الأسقف والجدران وحتى وجوه الوسائد.
في غرفة الضيوف تصف أمي صحون العيد، تلك الغرفة التي لا يسمح لنا بدخولها إلا إن تم استدعاؤنا إليها لتلبية خدمة ما، تمتد سفرة العيد بشكل مربع مفتوح من جهة باب الغرفة فقط، وفي وسط المنزل دلة القهوة المرة وثلاثة فناجين، وأباريق من المياه، تلقي النظرة الأخيرة قبل أن توقظنا وهي مطمئنة أن صناعة العيد قد انتهت.
بعد عودة والدي من صلاة العيد رفقة أخوتي الذكور، نكون قد ارتدينا ثيابنا قبل أن نبدأ بمعايدتهما، يجلس على فراشه وتكون “متربعة” بالقرب منه كحارسة لكل شيء، نقبل يده ويعطينا عيديتنا بـ “الأكبرية”، نادراً ما كان يقبلنا ويكتفي فقط بالدعاء لنا، أما أمي فكانت ترسم ابتسامة على وجهها كلما مررنا بها، لعلها تريد أن تقول “هذه صناعتي”.
لم تعد أمي تصنع العيد، أمي تبعد عنا اليوم مئات الكيلو مترات. تحوّلنا جميعاً إلى أمهات، يمكنني القول “كسولات” أو “قليلات الحرفة”، نحتج على ظروفنا القاسية بغياب مظاهر العيد، ومن كان منا بواقع اقتصادي جيد تحول إلى شراء كل شيء جاهز، حتى الكعك والمعمول، وتضاعفت كآبتنا عند كل عيد ونحن نمني أطفالنا بالوعود، دون أن نخبرهم عن “عيدنا” وعن جداتهم اللواتي كنّ يعرفن كيف يدبرن حياتهن تحت أي ظرف.
أنظر إلى يدي علّي استرجع نقش الحناء ووالدتي، قبل أن أغرق بالصمت، فلا حناء في المدينة، ولا صدراً أرتمي فيه يصنع أعيادنا من جديد.
أمل عبد النور