ينتظر السوريون دورهم أمام أفران المعروك قبل ساعات من الإفطار، همهم بذلك الحصول عليه طازجاً من الفرن، رغم انتشار العديد من بائعيه على البسطات في الأسواق.
أحاديث كثيرة تدور خلال الانتظار، بعضها يتعلق بجودة المعروك في المدن التي هجروا منها، وارتباط طعمه بذاكرتهم، يقول أحد المنظرين على الدور وهو يستذكر معروك فرن ميسلون في حلب “صعي هون المعروك طيب بس مو متل هداك، هداك بتحسوا حلب وريحتا”، ليرد عليه رجل آخر “كل شي تغيرت طعمتو، يمكن الغربة بتقتل الطعم”، تحول المكان إلى جلسة دائرية في انتظار خروج المعروك من الفرن، ليتداول كبار السن حديثاً عن العادات الرمضانية في حلب، حيث اعتبرها أبو أحمد كما عرف عن نفسه “عادات عريقة وموروثة عن الأجداد وفيها روح التراث والأصالة والمحبة والتواصل الديني والاخلاقي والحياتي فيما بينهم، وهي عادات تكاد تنتهي في هذه الأيام”.
أمام إلحاح الحاضرين بدأ أبو أحمد وصديقيه الستينين يتحدثان عن هذه العادات، فبعد “تكريزة رمضان” والتي تكون قبل يومين أو ثلاثة من بداية شهر رمضان تخرج الناس “للسيبانة”، بعد اجتماع العائلة والخروج نحو الظلال أو المياه في المناطق خارج المدينة، للشواء والسهر وتوديع ملذات الحياة من طعام وغناء وشراب، ليدخل الحلبيون في الأجواء الرمضانية لمدينتهم، من التراويح حتى السحور مروراً بمدفع رمضان والمسحر والأطعمة والمشروبات الأساسية في هذا الشهر، التي لم تكن تخلو مائدة من وجودها كالسوس والتمر الهندي والتوت الشامي ومنقوع قمر الدين، والحلويات كالهريسة والقطايف وغزل البنات، وخاصة المعروك بأنواعه الذي لا يؤكل عند أهالي حلب إلا في رمضان.
وتعد دمشق، بحسب الكتب التاريخية، المكان الأول الذي صنع المعروك به ولذلك كان يسمى في الكتب التاريخية “المعروك الشامي” ويعود سبب التسمية إلى الطريقة اليدوية التي يطحن بها العجين والتي يطلق عليها في اللهجة الشامية “عرك”، وانتقلت هذه الصناعة إلى حلب وذاع صيتها، يصف كامل الغزي في كتابه نهر الذهب في حلب المعروك “كان يُعمل في شهر رمضان فقط ويعرك ويطلى بالدبس أولاً، ويذرّ على سطحه السمسم أو الحبّة السوداء”، ويقول الأسدي في موسوعة حلب المقارنة “المعروك في العربية من الجذر عرك وعرك الأديمَ: دلكه، وهم أطلقوا فقالوا: عرك العجين، ودلك الكبّة أو عركها. ومن أكلات رمضان الكعك معروك، وفي السريانية: عْرٔك، وفي الكلدانية مثلها بمعنى: عجن شديداً. الكعك المعروك، كان يعمل في رمضان فقط، وسمّوه بالمعروك لأن لدى عجنه يعركونه كثيراً، وخميرته من الحمّص، ومنه الكعكات المعروكة الكبيرة أو الصغيرة،أو الخبز المعروك المدهون سطحه بالدبس، ومنه يذرّون عليه السمسم، ومنه الحبة السودا، ومنه اليانسون. [ ينادي بيّاعه ]: ياما عركوك في الليالي، يامعروك!”
وعن طريقة تحضيره أجابنا أحد العاملين في الفرن “أنه مكون من البيض والحليب والطحين والخميرة والزبدة والسكر، وأنه يحتاج لدرجة حراة تزيد عن 250 درجة، وعند إخراجه من الفرن يجب أن يغطى بقطعة قماش رطبة لمدة خمس دقائق، حتى يحافظ المعروك على ليونته ولا يدخل إليه الهواء، هذا الأمر الذي لا يقوم به معظم صانعي المعروك فيؤدي إلى يباس العجينة وفرطها، وقد زادت أنواع المعروك في الآونة الأخيرة فصرت ترى معروكاً معجوناً بالتمر، أوالقشطة العربية المرصعة بحبات الفستق الحلبي، أو الزبيب أو الشوكولا أو إحدى أنواع الفواكه المقطعة”
” رمضان مرق وخرق وصر ورق”
قبل أن تخرج الكعكة من الفرن أنهى أبو أحمد حديثه عن رمضان زمان بمثل حلبي شعبي “رمضان مرق وخرق وصر ورق”، وأكمل أننا صرنا في “الأيام العشرة الأخيرة من الشهر الكريم” وأشار بيده إلى “مرحلة صر الورق”، فأهل حلب يقسمون الشهر الكريم إلى ثلاثة أقسام:
العشر الأوائل وهي للمرق، وذلك لمحبتهم للطعام وإكثارهم منه ومن المرق بأنواعه والسوائل والحمص والفته والمشروبات الباردة وغيرها من أصناف الطعام. أما القسم الأوسط فهو قسم “الخرق” وفيه تضج الأسواق بالبائعين، والأهالي لشراء ثياب وكسوة العيد ولوازمه ،وتُنار الأسواق، وتبقى مفتوحة حتى الصباح .أما في القسم الأخير “صر الورق” تنهمك النسوة بإعداد حلوى العيد، خصوصاً المعمول المحشو بالجوز أو الفستق الحلبي، والمعمول بحسب الأسدي “سميد مبسوس بالسمن يحشى بالفتسق أو غيره، ثم يوضع في قالب، ثم يخبز بالفرن، ثم يذر على سطحه السكّر المسحوق، قالوا فيه الشعر:
المعمول في الصدر ( الصدر بالحلبية تعني الصينية)حكَى نظم زهر يتلو نجماً كوكبا
ومن ذلك أيضاً: كم من المعمول قد شمنا بَريق لاح منه وهو ضمن العلبِ”
تمتلئ بيوت أهل حلب بالمعروك خلال شهر رمضان، ويقدم كتحلية بعد الإفطار، وهو من العادات والتقاليد المرتبطة بسكان المدينة، وترافق موائد رمضان في أقسامه الثلاثة.