مغيب الشمس هو الوقت الذي يحدد ساعات عمل “أبو محمد” والتي تزيد عن اثنتي عشرة ساعة يومياً، تدفعه الحاجة وقلة فرص العمل للقبول بهذه الشروط التي وصفها بـ “المجحفة” والتي غدت سمة العمل في المدينة، بعد غياب تام للقوانين الناظمة والنقابات العمالية.
عيد العمال الأمريكي
يوم العمال العالمي بدأ على شكل احتجاجات قادها تنظيم “فرسان العمل” في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي تأسس من بعض عمال الأحذية والمناجم والألبسة في العام ١٨٦٩، للمطالبة بتحسين أجور العمال وتخفيض ساعات العمل اليوم، واتخذ من أول يوم في أيار مناسبة سنوية لتجديد هذه المطالب، التي بدأت تعم مناطق أوسع وتأخذ شكل إضرابات عن العمل، وهو ما أعلن عنه اتحاد العمال الأمريكيين بتحدد الأول من أيار في العام ١٨٨٦ يوماً للإضراب عن العمل، شارك فيه نحو ثلاثمائة ألف عامل، وعمت الإضرابات الولايات الأمريكية وخرجت المظاهرات التي قوبلت بقسوة من الشرطة، وسقط على إثرها عدد من القتلى في المواجهات، تلك الاحتجاجات مهدت الطريق لاعتبار الأول من أيار (يوماً -عيداً) للعمال مع الالتزام بتحديد ساعات العمل (٨ ساعات يومياً) في العالم. أما في أمريكا نفسها فقد أقر الكونغرس الأول من أيار يوماً للعمال في العام ١٩٥٨.
في سوريا مع الفرنسيين
لا نعرف على وجه الدقة بداية العمل بنظام الساعات الثمانية والاحتفال بعيد العمال في سوريا، إلا أن دراسات توضح تفعيل هذا القانون لدى عمال “الدريسة” عمال السكك الحديدية أو عمال الريجة خلال فترة الانتداب الفرنسي، بينما غابت هذه القوانين لدى العمال في المزارع وأصحاب المهن الحرة.
في العام ١٩٤٧ حدد القانون المدني السوري حقوق العمال وساعات عملهم، واستراحاتهم، والتزمت المؤسسات الحكومية بهذا القرار منذ ذلك التاريخ، لكن بقيت المؤسسات الخاصة، تعمل بحسب مصالحها بعيداً عن أعين الرقابة في كثير من الأوقات.
كما تحدث قانون العمل السوري الصادر عام 2010، عن ضرورة التزام أصحاب العمل بساعات العمل الثمانية، إذ نصت المادة 106 على أنه “لا يجوز تشغيل العامل تشغيلاً فعلياً أكثر من 8 ساعات في اليوم أو 48 ساعة في الأسبوع، ولا تدخل فيها الفترات المخصصة للطعام”.
العمال في زمن الثورة
الواقع الذي فرضته سلطة النظام، المسيطر الفعلي على القطاعات الصناعية والمعامل، وتغير خارطة السيطرة أجبرت أعداداً كبيرة من الموظفين على ترك عملهم لأسباب كثيرة منها الانحياز للثورة وعدم القدرة على البقاء في مناطق النظام، كذلك الخوف من الاعتقال والقبضة الأمنية، وأخيراً زج الكثير من العمال في خدمة العلم أو الاحتياط للقتال.
وغابت القدرة على تشغيل المعامل التي أصبحت تحت سيطرة المعارضة، وإن كانت قليلة نوعاً ما لتركز المعامل في مناطق لم تتخلى عنها قوات الأسد، كذلك المعامل الخاصة التي تعرضت للقصف أو السرقة، وما فرضه عدم الاستقرار وانعدام الأمن من امتناع أصحاب المعامل ورؤوس الأموال على ترميم منشآتهم أو افتتاح منشآت جديدة في مناطق المعارضة.
جميع تلك الأسباب أدت إلى خسارة آلاف العمل لوظائفهم، كذلك أصحاب المهن والصنعات التي تراجعت بفعل الأحوال الأمنية والعسكرية والاقتصادية في البلاد، وأرغمت أبناء هذه المناطق على العمل ضمن واقع يخالف كافة القوانين الدولية، وبأجور زهيدة لا ترفع من يتقاضاها عن خط الفقر الذي يعيش تحته نحو ٨٣٪ من السكان في سوريا، بحسب تقرير الأمم المتحدة عن سوريا لعام ٢٠١٩. ويحدد خط الفقر المدقع بتقاضي الشخص الواحد نحو (١.٩ دولار يومياً= ٢٤٦٠ ليرة بحسب سعر الصرف اليوم)، ووفقاً لهذه النسبة يعيش معظم السكان في إدلب تحت خط الفقر المدفع، هذا إن أسعفهم الحظ بإيجاد فرصة عمل.
يخبرنا براء وهو طالب جامعي إنه يعتبر نفسه محظوظاً إذ تمكن من العثور على فرصة عمله تساعده على تأمين بعض نفقات جامعته، يقول إنه يعمل في مطبعة لمدة ١٢ ساعة يومياً مقابل ١٠٠٠ ليرة سورية (٨٠ سنت)، وهو عمل يحلم به كثر من أبناء جيلي!
سعيد شاب آخر في المدينة يقول إنه لا يأبه بعدد ساعات العمل وصعوبته، كل ما يبحث عنه أجر مناسب يستطيع من خلاله تأمين احتياجاته الأساسية.
يتم الحصول على العمل في إدلب عبر قانون العرض والطلب، في حالات نادرة تخص عمل المنظمات يكون هناك مسابقات للتوظيف، ومع غياب القطاع العام والمعامل التابعة للحكومة أو المجالس المحلية يتحكم أصحاب الأعمال (ورش -معامل خاصة صغيرة -أصحاب محلات تجارية) بساعات العمل والأجور، يقول من التقيناهم “زيادة العرض هي من خفضت الأجور، فمعظم السكان يبحثون عن عمل، وهناك خيارات كثيرة أمام رب العمل للاختيار الذي يكون غالباً مبنياً على قلة الأجر وتحمل ساعات العمل الطويلة”، شعارهم في ذلك كلمة متداولة نقلها من تحدثنا معهم “ما عجبك في ألف واحد بدو يشتغل”.
يرجع من التقيناهم من أصحاب الورش وبعض أصحاب المحلات قلة الأجور وساعات العمل الطويلة لضعف الإنتاج وقلة الأرباح، ذلك ما يحول دون الالتزام بساعات عمل وأجور محددة تحاكي تلك المعمول بها عالمياً.
عيد العمال الذي تزامن هذا العام مع يوم الجمعة، لم يستطع منح “أبو محمد” وهو مدرس سابق يوم عطلة يقضيه مع أطفاله، يقول إنه يعلم أن صاحب العمل يستغل حاجته بعد انقطاعه عن التدريس، إلا أنه يجد نفسه “محظوظاً” لحصوله على عمل بأجر جيد. الدولارات الثلاث التي يتقاضاها أهم من العمال وعيدهم، يقول الرجل، خاصة مع غياب القوانين الناظمة وعدم وجود نقابة عمالية قد تشكل ضغطاً على أصحاب المعامل والورشات لتحسين أحوال العمال السيئة في المنطقة.