كل شبر وحتة من بلدي حتة من كبدي حتة من موال/ وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال..
اصحا يا نايم وحد الدايم/ السعي للصوم خير من النوم/ دي ليلي سمحه نجومها سبحة/ اصحا يا نايم يا نايم اصحا/ وحد الرزاق
المسحر، أحد معالم شهر رمضان الكريم، علق في الذاكرة كشخصية أثيرة يُنتظر قدومها، وتُفرح طلتها وغناؤها، وتسمية “المُسحّر” مشتقة من “السحور= تناول وجبة في وقت السَّحَر”، وقد اكتسبت أيضاً بعض معاني الجذر “سِحْر” بما اكتسبه صاحبها من جاذبية وتأثير وجداني، وخاصة بالنسبة للأطفال والصّبية.
قصة المسحر:
عرفت مهنة المسحر، منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فابتدأت ببلال الحبشي الذي كان يؤذن قبل الفجر في العهد النبوي لإيقاظ الصائمين فيبدؤون سحورهم، ويعرفون الامتناع عن الطعام بأذان “عبد الله ابن أم مكتوم”؛ فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: “إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم”.
ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية تغيرت طرق تنبيه الصائمين فظهر الزمزمي في مكة الذي كان ينادي من أجل السحور، وكان يتبع طريقة خاصة بحيث يرخي طرف حبل في يده يتدلى منه قنديلان كبيران، حتى يرى نور القنديلين من لا يستطيع سماع ندائه من فوق المسجد.
وفي عصر الدولة العباسية قام والي مصر، “عتبة بن اسحاق” بهذه المهمة بنفسه عام 238 للهجرة فكان يطوف في شوارع القاهرة ليلاً لإيقاظ أهلها وقت السحر منادياً الناس: “عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة”، لتتحول بعده في عهد الفاطميين إلى أمر مختص بالجنود يمروا على البيوت ويدقوا الأبواب لإيقاظ النائمين، ومع مرور الوقت خصص رجل للقيام بهذه المهمة دعي بالمسحراتي وكان ينادي: “يا أهل الله قوموا تسحروا”، ويدق على أبواب المنازل بـ عصا كان يحملها في يده.
على يد المصريين تطورت ظاهرة التسحير، فابتكروا الطبلة ليحملها المسحراتي، ويدق عليها بدلاً من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تسمى “بازة” (حيث يمسكها المسحراتي يبده اليسرى وبيده اليمنى سير من الجلد أو عصا خشبية كي يطبل بها. وللبازة أو الطبلة وجه واحد من الجلد مثبت بمسامير، ظهرها من النحاس أجوف، وبه مكان يمكن أن تعلق منه) يطوف بها أصحاب الأرباع وغيرهم على البيوت ويضربون عليها.
ومن مصر انتشرت هذه المهنة في الولايات الإسلامية، فقد كان أهل الشام ذوي طقوس خاصة تحيط بالمسحراتي؛ إذ كان المسحراتية في الشام يطوفون على البيوت وهم يعزفون على العيدان والصفافير وينشدون الأغاني الخفيفة.
المسحراتي في حلب
يطرب المسحراتي ليل حلب الجميل، ويوقظ الناس على إيقاع متزن، يرافقه نشيد متوارث ومدائح نبوية، وقصص وحكايات يقوم بتلحينها من خلال ضرباته على “الباز”، زارعاً الفرح والتفاؤل في أعين الصغار الذين ينظرون إليه من النوافذ أو يلحقون بركبه في الحواري، وغالباً ما يكون إلى جانبه طفله الذي سيرث هذه المهنة عن والده، يحمل في يديه فانوسان، ليعلمه هذه الحرفة من حيث تعلم الإيقاع والنغمات والأشعار والحكايا والقصص، التي يرددها أثناء التسحير، والابن يحمل السلة التي يجمع فيها أعطيات الطعام.
قديماً، كان يسحر مدينة حلب مسحر واحد، يقف في كان مرتفع ومعه طبل صغير، يضرب عليه وينشد بأعلى صوته بعض المدائح النبوية، ثم تطورت الحياة وبدأ عدد المسحرين يزداد حتى أصبح لكل حي مسحر خاص به، بل قسم الحي إلى مناطق يتوزعها المسحرون تتناسب مع عددهم.
ويشترط في المسحر أو المطبل كما يسميه أهالي المدينة، حسن الأداء وحلاوة الصوت، ففي منتصف الليل ينطلق المسحرون حاملين عدة العمل “الطبلة والسلة والفانوس وسير الجلد الذي يضرب به الطبلة”، وينطلقون عبر الحارات المظلمة، يقرعون الأبواب ويرددون عبارات رمضان التقليدية، والاشعار والمدائح المتوارثة.
وفي الوقت الذي كان “المسحر وأناشيده” في مصر في ستينيات القرن الماضي، فناً حقيقياً يذاع عبر الإذاعة والتلفاز، وتكتب من أجله الأشعار، كان في حلب حرفة لها أصولها وشيخ كارها ونقيبها و شاويشها،إضافة إلى المسحرين، ولكل من هؤلاء عمل يختص به بغية تأمين سير التسحير في المدينة على وجهه الأكمل، فشيخ الكار أعلى المسحرين رتبة وله عليهم سلطة، وهو من يلقنهم أصول الصنعة ويجيزهم لأداء هذه المهنة بعد الفحص، كما يحل الخلافات بينهم، مقابل بعض النقود التي يدفعها المسحرين له في ليلة السابع والعشرين من رمضان، على وليمة الرز بحليب، او الهيطلية، التي يولمها لهم. أما النقيب فهو نائبه، وواجبه القيام بدوريات للتأكد من سير عملية التسحير على ما يرام، وقيام كل مسحر بواجبه، يساعده في ذلك الشاويش الذي يقوم بإبلاغ المسحرين بالاجتماعات والقرارات.
أغاني وأناشيد المسحر في حلب
يقف المسحر أمام كل بيت لدقائق يضرب طبلته وينشد قائلاً: (لا إله إلا الله محمد الهادي رسول الله) ثم يواصل ضرب طبلته ويقول:(ياغافلين وحدوا الله – قولوا لا إله إلا الله) ويتابع (يا نايم وحد الدايم) (حباكم الله بكل عام بجاه المظلل بالغمام)، (ويا قاعد اذكر الله) ثم يواصل حديثه فيقول: (يا أسعد لياليك يا فلان) ويسمي صاحب المنزل وكل من هو موجود بالدار من الذكور ماعدا النساء، ولا ينسى أن يحصي ويذكر أسماء البنات الأبكار (أسعد الله صباح ست العرايس) ويذكر اسمها، ليعلم الناس بأنها صارت مؤهلة للزواج، ويضرب طبلته بعد كل تحية، وكانت النساء تطلبن من المسحر المزيد من الأناشيد ويرمون له النقود بورقة صغيرة يشعلونها بالنار ليعرف مكانها، وقبل أن يغادر المسحر موقعه متجهاً إلى مكان آخر يختتم كلامه بالقول (يا أيها النيام قوموا للفلاح – اشربوا وعجلوا فقد لاح الصباح – تسحروا غفر الله لكم – تسحروا فإن في السحور بركة).
يذكر الأسدي في موسوعته أن المسحر في مدينة حلب كان يقول: “زارت الغزالة النبي، وقالت أنا اولادي /مالأمْس لليوم ماذاقوا ولا زادي.
وفي أواخر رمضان يقول مع جماعة تصحبه: ودّعوه ثم قولوا له: ياشهرنا منّا عليك السلام.
أما الأولاد فيتندرون ويقولون: “طم طم قوموا عالسحور، طم طم أجا الكلب يزور، طم طم أكل اللحمة، طم طم ماخلّى شي للسحور”.
أما في العيد فكان يمر المسحر بالبيوت ليأخذ “الكرى” أو العيدية قائلاً: أولادكن أروشوني، حيطانكن طرمخوني، بالرز بحليب غسلوني، من المعمولات لا تنسوني، هاتو الدفاتر وحاسبوني، كل سنة وأنتم سالمون”.