الموت كان سريعاً جداً يغتالنا على عجل دون خوف، والركوع صار ديدن الجلوس على التراب لنثر حبات الغبار على الرؤوس الحائرة، تركعُ هادئاً لا وقت لديك لفرك أصابعك بالتراب والتيمم للصلاة، فحرقة الرائحة تضع أصابعها في حلقك لتبدأ بالغثيان، والدمُ هو الحالة الوحيدة الحارّة والمنطقية أمام طوفان ما يحدث.
لن أكون طيباً بعلم أبيض أو بنجوم كثيرة، ولم تعد الألوان تأخذ مكانها الطبيعي في الذاكرة، فالمشهد يجتاحنا معاً، نحن الذين نقبع في الخيام وذل المنافي وأسطورة المدينة أو ما تبقى من حكايات “كلّة معروف”. والباقون هناك تحت الركام والأشجار التي لم تعد واقفة صارت رماد المدافئ الجديدة، فالدفء أهم من الظلال.
أمام دوار الحلوانية صرت أرى الضوء المقابل كفسحة سماوية، صرت أرى المارة يركضون، كنت فقط قبلاً أجد الشمس عنوة تفتح كوات للنهار بين الصباحات، والمباني تعشق بعضها، تحاذي نفسها في الكتف، وتحجب بحضورها أفق الانتظار، محلات الجملة وصيدلية العاصي وبائعي الأدوات الكهربائية وعربات الخضار كلها استبدلت بالضوء، رجل هارب من الموت أمام قطعة من الشمس ملقاة في وسط الطريق الهادئ كان يقول “بارك بقعة النور الوحيدة ثم نم”.
على أحد رفوف الصباح كانت لا تزال أغصان السجادة تحاول اختراق الجدار بين الضوء والظل وأقراص النفتالين، أتسلل بين حبال الغسيل بعد نعاس طويل، امرأة نسيت سلّم البيت بين شرفتين احترقتا فلطمت على وجهها أن عليها أن تعيد للخرق البالية المتناثرة على الحبل لون البياض.
تصحو حراً، أو هكذا يوحي نيسان للقادمين إلى المدينة، ربما عليك أن تخلع عنك ذاكرتي وبقاياي وتبحث اليوم عن مدينة بلا انكسارات. تؤمن كنحن أن نيسان هذا كان على موعد مع الحرية.
في نيسان حين كل شيء يعلن القيامة ، لم أر صباحاً طالبات بجدائل و “فولار” وصدرية زرقاء، لم أر وجوههن في قرطاسية المحلات ولا على صرير أقلامها، في نيسان لم ترتد الأرض ألوانها المحببة ولم تصبغ شعرها بألوان السنة.
في نيسان يا صديقي أعلم أنك بارد، وتحار في أي الغرفتين سيبني السنونو عشه للربيع القادم ومن سيحمى عظام المدينة من برد الروماتيزم المزمن. في نيسان تتردد المدينة في صناعة يا سمينها وإهدائه للعشاق والمارة وتوزيعه على جدران من البياض، فهي مشغولة بصناعة أطواق الشهداء ومقابرهم، تخلع أصفرها الخريفي وترتدي قطناً حالكاً من الصباحات المرتعدة، لن تسقط الدموع، هذي الدموع زنابق والأرض عطشى للهمس.
الشهادة أن لا تموت مذبوحاً أو خائفاً أو فقيراً أو عارياً، الشهادة أن لا أطفئ وحشتي في منفضة الظلال أو على شواهد القبور، أو أن أنظر إلى عذاباتنا بلوني الأزرق لا أحمل خبزاً أو ماء أو قبعة أو شال عرس، سننهض موتى مبتسمين لندرك أن “الإنسان غلطة والعالم خلق للأشجار”، سيملؤني الدم لأصبغ كل نجومي، أُفرغ حقدي الدفين على الأرصفة، وأقول عمت مساء أيها الانتصار.
بعدها سأبتسم للطرقات دون أن تراني، أتبعها أدقق في وجوه العجائز القابعين الأرصفة، لن استمع لحكاياتهم، فالمشهد كان صامتاً. أحمل فتات خبز نسيه طائر عمداً ليطعمني أقبله وآكل، في الطريق لن أسمح لليتم أن يأتي ليقنعني بضرورة الشمس لترقق العظام وللدفء وينساني مع أول غيمة ماطرة، سأجلس هناك في ظل ” ساعة حمص ” التي ولدت من جديد في قلب دوار الحلوانية، أحمل وجع الوقت ليدلني على الجهات لأقنع نفسي أننا على مفرق الطريق الوحيد نحو الحرية .