فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

   “الجلاء” مسيرة نضال على طريق الحرية والاستقلال

 محمود يوسف السويد

أعدم رفاق العياش رمياً بالرصاص، بينما تم الحكم عليه بالسجن (20) عاماً في جزيرة أرواد، ليقوم الفرنسيون باغتياله فيما بعد عن طريق السم أثناء تواجده في أحد مقاهي طرطوس، حيث تم نفيه إليها، ومن منفاه كان يوجه الحراك الثوري في منطقته، كان ذلك في العام 1940، لتنتهي بهذا حياة ثائر تحول لأيقونة في مدينته

يرتبط عيد الجلاء في وعيي من خلال مشهدين الأول كان ما تبثه القناة الوحيدة في التلفزيون السوري يومها من أغان قومية ووطنية، يليها بث مباشر من داخل المتحف الحربي، والثاني في ارتباط الاسم بالجلاء المدرسي في طفولتي الأولى. المشهدان كانا يشعراني بالقشعريرة، الفرح والخوف، والكثير مما سيتبدل من مشاعر في السنوات القادمة.

كتب لسوريا كغيرها من الدول العربية أن تعايش احتلالات مختلفة على مر العصور، اختلفت من حيث المسمى الظاهري بين مباشر وهيمنة، لكنها اتفقت من جهة الهدف، وكان الانتداب الفرنسي أحد تلك الصور لاحتلال مباشر مصبوغ بشرعة دولية ظالمة، سنها المحتل نفسه ليبرر دعواه اغتصاب ما ليس من حقه، بحجة تطويره والأخذ بيده نحو النور ودرب الحضارة، ليدخل الجيش الفرنسي دمشق في الرابع والعشرين من تموز لعام عشرين وتسعمئة وألف، بعد انتصاره على ثوارها في معركة ميسلون.
بتتبع أحداث تلك الفترة، يصادفك أمران هامان الأول يظهر في اتفاق قادة الثورة على مبادئ أساسية لا يمكن التخلي عنها، والثاني غياب الأنانية التي اختفت ملامحها لدى أغلب مناضلي الشعب السوري في فترة الاحتلال الفرنسي، إذ شكل حب الأرض وواجب الدفاع عنها، حافزاً لهم للمقاومة وبذل ما يستطيعون من مال وجهد للوصول للغاية الأسمى وهي طرد المحتل عن أراضيهم.

معركة ميسلون التي خاضها يوسف العظمة ورفاقه، شكلت البوابة الرئيسية لمعارك كثيرة لاحقة خاضها رجال سوريا في ذلك الوقت سواء على الصعيد العسكري أو السياسي.

في الشمال السوري برز إبراهيم هنانو ابن مدينة كفر تخاريم من مواليد عام 1869 وابن سليمان آغا الرجل الثري آنذاك، كواحد من أوائل من حمل السلاح في وجه المستعمر الفرنسي، حيث شكل أول مجموعة ثورية في المنطقة الشمالية أطلق عليها اسم “جمعية الدفاع الوطني”، معرضاً  نفسه وأهله للملاحقة وخطر الموت، حيث ألقي القبض عليه وطالب المدعي العام الفرنسي أثناء المحاكمة بإعدامه قائلاً: “لو أن لهنانو سبعة رؤوس لطلبت قطعها جميعاً”، لكن المحكمة اضطرت لإخلاء سبيله خوفاً من الغضب الشعبي، ليعاود هنانو مواصلة الكفاح السياسي، وأصبح رئيساً للكتلة الوطنية، وتولى زعامة الحركة الوطنية في شمال سوريا، وفي عام 1928 تم تعينه رئيساً للجنة الدستور في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور السوري، توفي إبراهيم هنانو عام 1935 بعد صراع مع المرض، وشيع جثمانه في مدينة حلب، بعد أن باع جل أملاكه لأجل دعم النضال الثوري، وليبقى منزله الكائن في بلدة كفر تخاريم مسقط رأسه اليوم يحكي مسيرة دربه.

كما هنانو في الشمال كذلك برز اسم سلطان باشا الأطرش من مواليد قرية القريا في محافظة السويداء بمنطقة صلخد في العام 1888 ووالده هو “ذوقان بن مصطفى بن إسماعيل الثاني” مؤسس المشيخة الطرشانية، كمناضل أذاق الفرنسيين مرارة الخسارة في معارك كثيرة، وحمل لواء الثورة السورية الكبرى في العام 1925، وأذاع بيان النفير العام للشعب السوري الذي حمل اسم “إلى السلاح”، وقاد معارك شرسة كمعركة الكفر والمزرعة والمسيفرة، والتي كبدت الفرنسيين خسائر كبيرة اضطرتهم لاستقدام تعزيزات ضخمة، ما دفع الأطرش للتوجه نحو الأردن ومنها إلى السعودية رافضاً كل العروض بتسليم سلاحه مقابل العفو عنه حتى حكم عليه بالإعدام، وسعياً لامتصاص الغليان الشعبي صدر عفو عنه وعن رفاقه إثر معاهدة 1936ليعود للوطن ويستقبل كبطل من أبناء سوريا، ويظل هكذا حتى وفاته في العام 1982عن عمر (91) عاماً.

في دير الزور برز اسم محمد عيّاش الحاج، والذي قاد ثورة الفرات تزامنا مع ثورة سلطان الأطرش، وجند معه أعداداً كبيرة من المقاتلين وعلى رأسهم عشيرة البو سراية، حيث ألحق بالفرنسيين هزائم كثيرة في أكثر من مكان، ما دفع الجيش الفرنسي لقصف العشيرة بالطائرات، دون أن ينالوا أي مكاسب، حينها  لجؤوا لاعتقال نساء العائلة ومساومة الثوار على تسليم أنفسهم، وكان أن سيق عيّاش ورفاقه إلى حلب للمحاكمة، ومما قاله الكابتن بونو، رئيس الاستخبارات الفرنسية بدير الزور وقتها: “إذا كان كل من الأشقياء، الذين اقترفوا هذا الجرم الفظيع يستحق الموت مرة واحدة فإن محمد العيّاش زعيم العصابة يستحق الشنق مرتين”.

أعدم رفاق العياش رمياً بالرصاص، بينما تم الحكم عليه بالسجن (20) عاماً في جزيرة أرواد، ليقوم الفرنسيون باغتياله فيما بعد عن طريق السم أثناء تواجده في أحد مقاهي طرطوس، حيث تم نفيه إليها، ومن منفاه كان يوجه الحراك الثوري في منطقته، كان ذلك في العام 1940، لتنتهي بهذا حياة ثائر تحول لأيقونة في مدينته، أنارت لمن بقي خلفه طريق الثورة حتى الاستقلال.

دمشق العاصمة حملت أسماء مناضلين كثر لا يتسع المجال لذكر مناقبهم، على رأسهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر العقل المدبر للثورة السورية الكبرى، ومن مواليد دمشق عام 1879، قاد النضال السياسي وبرز كوجه سياسي التف حوله الجماهير، ما دفع الفرنسيين لاعتقاله والحكم عليه بالنفي (20) عاماً إلى بيت الدين بلبنان ومن ثم إلى أرواد، ومن منفاه غادر إلى أوربا والولايات المتحدة الأمريكية بهدف عرض الحقائق وتوضيح الممارسات الفرنسية على كل من سوريا ولبنان فكان أول سياسي عربي سافر إلى الغرب وتحدث باسم بلاده.

كان الشهبندر بمثابة نقطة التقاء تجمع أطياف الثورة السورية فاتصل مع هنانو والعياش وحسن الخراط والقاوقجي في حماة وسلطان باشا الأطرش الذي اختار أن يسافر معه إلى الأردن والسعودية لحين صدور العفو العام. لكنه لم يتوانى عن النضال السياسي، واستمر في نضاله إلى أن تم اغتياله في عيادته بدمشق، في العام 1940.

هاشم الاتاسي، أو كما يلقب “أبو الجمهورية”، من مواليد مدينة حمص في العام 1875، من مؤسسي الكتلة الوطنية وأبرز المناضلين السياسيين الذين رفضوا الاحتلال الفرنسي لسوريا، وطالبوا باستقلالها، وتعرض كما زملاؤه البقية للاعتقال والسجن في أرواد، واستمر في نضاله حتى نيل سوريا الاستقلال، وتابع فيما بعد العمل السياسي متنقلاً بين رئيس للحكومة إلى رئيس للجمهورية، حتى توفي في حمص في العام 1960، وحضر جمال عبد الناصر جنازته، حيث كان رئيس الجمهورية المتحدة وقتها.
بلغ عدد شهداء الثورة السورية الكبرى 4213 شهيداً، تمكنوا بإصرارهم ووحدة كلمتهم من إخراج المستعمر من أراضيهم وإحداث نقلة نوعية في الحياة السياسية السورية، وهذا ما نتطلع إليه اليوم كسوريين قدموا آلاف الشهداء مرة أخرى، لنيل الحرية التي يحلمون بها.