في زاوية الغرفة يجلس الطفل عمر (١٠ سنوات من مدينة إدلب) متجنباً الحديث مع الجميع بما فيهم والدته وإخوته، تظهر عليه حالة من الشرود الذهني والخوف، تقول والدته إنه “لم يكن كذلك قبل عام واحد، هو الآن يرفض التعبير عن مشاعره أو الحديث، حتى الخروج من البيت واللعب مع أقرانه”.
تخبرنا السيدة أن حال طفلها “عمر” تغير منذ شهوده بشكل مباشر للقصف الذي طال الحي الذي يسكنوه، “رأى بأم عينه الجثث في المنزل المجاور لبيتهم والذي تعرض للقصف”، وهو ما أسهم بدخوله في “اضطراب نفسي غير من سلوكه الاجتماعي، رافقه نوبات من الهلع والصراخ عند سماعه لصوت الطائرات من جديد”، تقول “إنها لم تكن تعلم أن ذلك سيغير من حياة طفلها إلى هذه الدرجة.
محمد طفل آخر شهد غارة جوية سقطت صواريخها بالقرب منه خلال عودته من المدرسة، يعاني منذ ذلك الوقت فقدان القدرة على النطق، بصعوبة شديدة يستطيع إخراج بعض المفردات تغلب عليها “التأتأة”. ليس فقدان النطق هو فقط ما يعاني منه محمد، بل تحول سلوكه إلى “العدوانية”، فدائماً ما يضرب أقرانه وأصدقاءه دون مبرر.
تعريف اضطرابات ما بعد الصدمة
تصنف الاضطرابات التي يعاني منها الطفلان ضمن ما اصطلح عليه تعريفاً بـ “اضطرابات ما بعد الصدمة”، وهو اضطراب قلق ينتج عن رد فعل عاطفي قوي نتيجة لحدث مجهد بشكل غير عادي. ويترافق مع أحداث صادمة شديدة تؤدي لأعراض قد تستمر لأشهر وأحياناً لسنوات تؤثر على توافق الشخص وأدائه الوظيفي وممارسته للأنشطة اليومية، وعادة ما تظهر الأعراض بوضوح خلال الأشهر الثلاثة الأولى، ونادراً ما تظهر بعد سنوات ترافقها نوبات من الهلع.
الحرب أهم الأسباب والأطفال أكثر الفئات عرضة
لا يوجد إحصائيات أو دراسات دقيقة لدراسة اضطرابات ما بعد الصدمة في مناطق المعارضة السورية، ولا يمكن أن نعرف أعداد الأشخاص التي يعانون منها، سواء أولئك الذين تظهر عليهم الأعراض بوضوح أو الذين ظهرت عليهم بعض الأعراض وتعافوا منها خلال مدة من الزمن، إذ من الممكن، بحسب الدراسات حول اضطرابات ما بعد الصدمة ومنها دراسة أجراها عبد الباقي دفع الله أحمد عن اضطرابات ما بعد الصدمة لدى الأطفال في مخيمات النزوح بالسودان، أن تزول أعراض اضطرابات الصدمة مع الزمن دون الحاجة لتدخل علاجي نفسي.
ولكن الدراسة توضح أن الحرب هي أهم سبب من الممكن أن ينتج اضطرابات ما بعد الصدمة، إضافة لأحداث صادمة أخرى أقل تأثيراً كالصدمات المفاجئة والزلازل والتعنيف وغيرها، كما تعتبر الدراسة الأطفال هم الأكثر عرضة للإصابة وذلك لعدة أسباب يجملها بكونهم أكثر الفئات عجزاً وهشاشة لمواجهة ومقاومة ما يتعرضون له من خطر ورعب، ولافتقارهم للقدرات المعرفية التي تمكنهم من استيعاب ما يتعرضون له من أخطار وتقرير مصالحهم وتلبية حاجاتهم بأنفسهم وحماية حقوقهم، كما يفتقرون للقدرة على التعبير اللفظي حول ما حدث معهم أو ما شاهدوه.
أعراض اضطرابات ما بعد الصدمة
تنجم الآثار النفسية للحرب عبر طريقين، مباشر (كتعرض الشخص نفسه أو أحد معارفه للخطر)، وغير مباشر (عبر المشاهدات على التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، أو ما يدور من أحاديث يسمعها ويلتقطها).
وتتضمن أعراض اضطرابات ما بعد الصدمة “إعادة معايشة الحدث في الأحلام وفي الصور الذهنية والأفكار، والشعور العام بعدم القدرة على التعبير عن المشاعر، والابتعاد عن الآخرين، والشعور بعدم الرغبة بالتفاعل مع العالم الحقيقي والعلاقات الاجتماعية، وعدم الاهتمام بالأعمال التي كانت موضع اهتمام الشخص في السابق، والإحساس بالذنب، واضطرابات النوم والاستثارة الزائدة”، كذلك “عدم التركيز والتخوف والشك بالمستقبل والتهيج والغضب والشعور بالوحدة، ناهيك عن بعض الأعراض الجسدية كالتبلل بالعرق وخفقان القلب والتبول اللا إرادي، والاكتئاب والقلق”.
يقول علاء العلي (كلية التربية قسم الإرشاد النفسي) والذي يعمل كمرشد نفسي في إدلب إن هناك حالات مرضية لدى بعض الأطفال في إدلب نتيجة الحرب، مثل التبول اللا إرادي ومرض السكر المفاجئ وانتشار مظاهر “العدوانية” لدى بعض الأطفال، وخلل النطق “التأتأة” أو فقدانه بالكامل، والحركة الزائدة المقرونة بتشتت الانتباه.
وعن حالة محمد (المثال الذي ذكرناه في البداية” يقول إن سبب وصوله إلى هذه الحال من “العدائية” يعود إلى سخرية أقرانه منه خلال محاولته التعبير عما يجول بداخله. بينما تشخص فاتن سويد (كلية التربية -قسم الإرشاد النفسي) حالة الطفل عمر (المذكورة سابقاً) بـ “اضطراب ما بعد الصدمة”.
آليات العلاج ونصائح لمواجهة الاضطرابات
يترك التدخل النفسي أثراً إيجابياً على تنمية الاستراتيجيات المتعلقة بالإدراك المعرفي للأطفال الذين تظهر عليهم أعراض ما بعد الصدمة، كذلك على المجتمع في التعامل مع من يعاني منها من خلال الاستشارات الجماعية والفردية ونشر الوعي النفسي عبر وسائل الإعلام والمدارس ..
ويعد الكشف المبكر عاملاً أساسياً في الحد من تأثير هذه الاضطرابات على شخصية الطفل وعطائه، كذلك إبعاده عن مكان النزاع وتوفير بيئة آمنة له، وتنمية الإدراك والدافعية لديه، وتعزيز الأنشطة الجماعية التي من خلالها يستطيع التنفيس وتفريغ ما يجول في داخله، إضافة للأنشطة والمهارات كالرياضة والرسم وغيرها والتي تسهم في عودته إلى الحياة الواقعية والاجتماعية.
تقول السويد إن الأنشطة الترفيهية وحث الطفل عليها، إضافة لتشجيعه على كتابة قصص حول ما يجول بداخله تترك أثراً إيجابياً على شخصية المصابين باضطراب ما بعد الصدمة بينما ينبه العلي إلى ضروة اتخاذ عدة تدابير وقائية من قبل الأهل لحماية أطفالهم من تلك الصدمات النفسية، مثل إخفاء خوف الوالدين أمام أطفالهم، وإبعاد الأطفال عن مناطق القصف، وشغل الأطفال بمشاهدة التلفاز أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وعن تأثير هذه الظاهرة على المجتمع بشكل عام تخوف العلي من احتمال حدوث تفكك بالمجتمع وتردي في السلوك والأخلاق بشكل عام لدى أولئك الأطفال في حال كبروا، بسبب ظاهرة الخلل في الجوانب المعرفية الناتجة عن ظاهرة تشتت الانتباه والشرود والنسيان وعدم التركيز الذي يسبب بدوره تسرب دراسي لدى الطفل بسبب الخوف والقلق المتكرر من القصف. كما يخشى من خلل قد يصيب منظومة القيم الاخلاقية عند الأطفال كانتشار السرقات والاعتداءات بأنواعها، بسبب الخوف نتيجة تكرر الصدمات والمعاناة وعدم وجود القدوة مثل الأب أو المعلم بسبب التسرب الدراسي.
تنبه الكادر الصحي في مناطق المعارضة إلى خطورة المشاكل النفسية التي يعاني منها بعض الأطفال، وتم بموجب ذلك إنشاء برنامج طبي نفسي يدعو إلى رأب الفجوة النفسية عبر إقامة دورات تدريبية للأطباء للتعامل مع تلك الحالات. كما اهتمت بعض المنظمات بإنشاء فرق جوالة هدفها تقديم الدعم النفسي للأطفال في المدارس عبر منحهم بعض النشاطات الترفيهية، والهدايا التشجيعية، على أمل أن تساهم تلك الحملات بإخراج الأطفال من أجواء الحرب التي عاشوها.
تبقى كل تلك المحاولات “الخجولة” خطوة في مواجهة اضطرابات ما بعد الصدمة، خاصة مع ضرورة إيجاد آلية أكثر دقة لإحصاء هذه الحالات والتعامل معها، ووضع برامج صحية ونفسية دورية، إضافة لإنشاء عيادات تخصصية، والأهم من ذلك توفير البيئة الآمنة التي تعتبر شرطاً رئيساً لمواجهة هذه الاضطرابات، والتي قد تتسبب مع مرور الوقت بآثار نفسية لا ينفع الزمن بشفائها أو تجاوز الأشخاص لاضطراباتهم.