تسعى إيران منذ سنوات طويلة للتوغل في سوريا، والتحكم بعدة مفاصل تراها هامة جداً بالنسبة لها، ومع تزايد النفوذ الروسي في سوريا، والذي بات يستحوذ على قطاعاتٍ واسعةٍ ولاسيما في مجال الاستثمار والاقتصاد، سارعت طهران لمزاحمة موسكو، مستغلة التسهيلات التي يقدمها النظام السوري، لتدخل المجال التربوي وتبدأ بالترويج لسياستها ونشر أفكارها الدينية.
وقّعت إيران في الثالث والعشرين من كانون الثاني الماضي، اتفاقية “تعاونٍ تربوي” مع حكومة النظام، تعهدت طهران من خلالها بترميم 250 مدرسة مدمرة في مختلف المحافظات السورية بتكلفة تتجاوز 12 مليار ليرة، معظمها في مدينة حلب وريفها وريف دمشق، على أن ينتهي الترميم قبل شهر آب المقبل، كما نصت الاتفاقية على تعاون طهران في مجال طباعة الكتب، وتطوير المناهج التعليمية، وافتتاح مراكز لتعليم الأطفال السوريين وإرشاد الآباء.
وصرح وزير التربية والتعليم الإيراني محسن حاجي ميرزائي لوكالة أنباء النظام “سانا”، أن بلاده مستعدة لترميم آلاف المدارس في سوريا، زاعماً أن إيران لها تجارب بمجال إعمار وتأهيل المراكز التعليمية، وأنها على استعداد تام لنقل تلك الخبرات إلى سوريا.
تسعى إيران للوصول إلى عمق المجتمع السوري ونشر أفكارها العقائدية، عبر إيجاد قاعدة اجتماعية لها في سوريا، على غرار القواعد الموجودة في لبنان (الضاحية الجنوبية)، وفي العراق )أتباع السيستاني( وفي اليمن )جماعة الحوثي(، ومن أجل هذا التوسع عملت طهران من خلال ملحقيتها الثقافية على نشر أفكارها العقائدية، بعد السيطرة شبه التامة على بعض مصادر القرار في حكومة الأسد بحسب فراس علاوي مدير تحرير شبكة “الشرق نيوز”.
وأوضح أن إيران استهدفت قطاع التعليم كونه الوسيلة الأسرع والأكثر تأثيراً، خاصةً أن زراعة الأفكار في ذهن الطفل أسهل من تغييرها من ذهن الكبير، لهذا عملت طهران على التغلغل في المدارس لغسل دماغ الأطفال، وزراعتها بالفكر الشيعي، مستغلةً تساهل النظام السوري معها، حيث اتفقت معه على ترميم المدارس والإشراف على العملية التعليمية، بغية السيطرة على التعليم في سوريا”.
وأشار علاوي إلى أن “إيران تستقطب الطلاب لمدارسها في سوريا، عن طريق الترغيب من خلال تقديم المساعدات المالية والإغراءات بالمناصب والامتيازات لذوي الطلاب، وتشجيعهم برحلات إلى طهران وغيرها من المدن الإيرانية، إضافةً إلى تقديم مِنح إكمال التعليم وتوزيع المعونات للطلاب.
كما تعمل إيران على تهديد أهالي الطلبة الذين يرفضون الانضمام لمدارسها، متهمة إياهم برفضهم للوجود الإيراني وبالتالي المعارضة لسياسة الأسد التي توجد الاعتقال.
طهران تتوغل في مدارس الغوطة
وبدأت إيران سنة 2014 بالتغلغل في مدارس سوريا، حيث أصدر حينها رأس النظام بشار الأسد مرسوماً جمهورياً لإحداث مدارس شرعية على المذهب الجعفري، وتركزت تلك المدارس في المناطق التي تضم أغلبية علوية وشيعية، ولاسيما جبلة واللاذقية وطرطوس وحمص، وتتبع لوزارتي التربية والأوقاف في حكومة النظام، بينما تكون إيران المسؤول الأول عن المناهج والتدريس فيها.
وقال الصحفي غياث الذهبي من أبناء الغوطة: “عملت طهران على توسيع رقعة نفوذها لتطال المناطق السنية أيضاً، فسارعت لاستهداف المناطق الفقيرة والقريبة من المراكز الدينية التي تهمها كداريا والغوطة وجنوب دمشق، لهذا بدأت قبل خمسة أشهر بعمليات ترميم المدارس ضمن مدن وبلدات القطاع الجنوبي، وذلك بإشراف عدة مؤسسات شيعية مدعومة من إيران، بينها مؤسسة (آل البيت) ومعهد (رقية)، والتي تديرها شخصيات مرتبطة بشكل مباشر بالمرشد الإيراني”.
وأضاف الذهبي أن “تلك العقود المبرمة بين حكومة النظام ومستثمرين إيرانيين تتضمن عمليات ترميم مدارس من قبل إيران، في بلدات زبدين وشبعا وحتيتة الجرش في القطاع الجنوبي من الغوطة الشرقية، وذلك بغية استقطاب طلاب الغوطة، إضافةً إلى إعادة تأهيل الحسينيات والحوزات التي بنتها إيران في الغوطة قبل انطلاق الثورة السورية دون علم الأهالي، مع توقعات بأن تشهد الفترة القادمة مزيداً من التغلغل الإيراني ضمن المدارس المنتشرة في محيط دمشق”.
التمدد الإيراني مشروع قديم
يمتد المشروع الايراني ضمن مناطق مختلفة من الجغرافيا السورية منذ سنوات طويلة، وقال مضر الأسعد “رئيس المركز السوري للأخبار والدراسات” إنه “منذ عام 1982م وحتى اليوم تعمل إيران على التوغل في سوريا، من خلال المدارس والمعاهد والمراكز الثقافية التي تم افتتاحها، في دمشق ودير الزور وحلب والسيدة زينب وببيلا وداريا ومدن الساحل”.
قبل الثورة السورية، كان هناك أكثر من 40 مدرسة إيرانية خاصة في دمشق وحدها، منتشرة في مناطق التجمعات الشيعية، ومعترف بها من قبل وزارة التربية والتعليم في حكومة النظام.
وتركزت المدارس الإيرانية، في مناطق شارع الأمين وباب مصلى وشارع الحمرا والقيمرية داخل العاصمة دمشق، وفي المليحة والسيدة زينب وسيدي مقداد والديابية بريف دمشق، فضلاً عن وجود مدارس في اللاذقية وحلب ودير الزور ودرعا، حيث عُيّن المدعو “عبد الله نظام” مشرفاً عليها والذي يُعرف بأنه أحد مراجع الشيعة في دمشق.
وأضاف الأسعد “عقب اندلاع الثورة السورية، نشطت إيران بافتتاح الحوزات والحسينيات والمدارس والمعاهد الدينية، حيث تشير الإحصائيات أنه تم إنشاء ٥٠٠ حوزة وحسينية بمختلف مناطق سوريا”، مشيراً إلى أن “إيران تشرف مع وزارة التعليم التابعة للنظام على كلية الشريعة في جامعة دمشق وبقية الجامعات التي تقع تحت سيطرة الأسد”.
ومع إصدار بشار الأسد مرسوماً بتدريس المذهب الشيعي في المدارس السورية إلى جانب السني في 2014، تم افتتاح أول مدرسة شيعية حكومية في البلاد تحت اسم “الرسول الكبير”، ولها فروع في عدة مدن سورية.
وتعرّف المدرسة نفسها بأنها “مدرسة دينية، تهدف إلى تدريس الأدب والعلوم وحب الأمة وزعيمها، وتنشر في صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، منشورات دينية منسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب.
كما أنشأت إيران في 2014 مجموعة تسمى “كشافة المهدي”، تتبع لـ “جمعية الإمام المهدي” في منطقة السيدة زينب بريف دمشق، وذلك بغية السيطرة على تفكير الطلاب والأطفال، وتمّول “كشافة المهدي” من قبل المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق.
وقال الناشط الإعلامي محمود الديري إن “إيران افتتحت مؤسسات في سوريا لتساعدها في نشره أفكارها بمباركة من الأسد، ومنها جمعية كشافة المهدي، والتي بات لها فروع في عدة مناطق بسوريا، وتحاول تلك المؤسسة جذب الأطفال لها عبر إقناع الأهالي أنهم سيعلمون أبنائهم مفاهيم الدين، إضافةً إلى إقامة الأنشطة والرحلات الترفيهية للأطفال، إلا أنهم في الواقع يسعون لتغيير المعتقدات الدينية لدى الأطفال، وتجييشهم بشكل طائفي من خلال سرد القصص والأفلام حول الثأر للحسين، وتعريفهم بالثورة الإيرانية وإنجازاتها”.
كذلك افتتحت إيران في السنوات السابقة، فرعاً لـ “جامعة تربية مدرس” في سوريا، بهدف تخريج أساتذة للجامعات، كما افتتحت كلية للمذاهب الإسلامية بدمشق، وفروعاً للجامعة الإسلامية الإيرانية “آزاد”، وجامعتي المصطفى العالمية الدينية والفارابي .
إدخال “اللغة الفارسية” في المنهاج السوري
ولم تقتصر مساعي إيران على افتتاح مدارس لنشر أفكارها في سوريا، بل دعت مؤخراً إلى إدراج اللغة الفارسية في النظام التعليمي السوري، كلغةٍ ثانية واختيارية في الثانويات السورية، ولاسيما بعد أن أدخلت روسيا لغتها منذ عام 2015 في المنهاج السوري.
وقال الأسعد: إن إيران ستنجح في جعل اللغة الفارسية لغة ثانية في سوريا، في ظل توجه الأسد للاستجابة لكل مطالب طهران وموسكو من أجل تسديد فاتورة حمايتهما له وتدخلهما لإنقاذه”، لافتاً إلى “خطورة هذا الأمر، كونه يتسبّب في اندثار اللغة العربية الأم، وتعويم اللغة الفارسية، ما يُساهم في طمس الهوية العربية”.
وأوضح الأسعد أن “طهران ستعمل على تعميم لغتها في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية بسوريا، وإدخالها كلغة ثانية في الجامعات والمعاهد، إضافةً لكونها اللغة الأساسية في الحوزات والحسينيات الشيعية، فضلاً عن إرسال الطلبة السوريين للدراسة في إيران”.
وفي 2005 نجحت طهران عن طريق مكتبها الاستشاري الثقافي والسفاري بدمشق، في افتتاح أول قسم للغة الفارسية في جامعة دمشق، تليها جامعتي حمص وحلب، وتبعتها جامعتي دير الزور وطرطوس.
ثم أوفدت أربعة مدرّسين إيرانيين لتعليم الفارسية في جامعات دمشق وحلب وحمص، إلا أن المدرسين الأربعة غادروا سوريا عقب اندلاع الثورة في 2011، وهو ما دفع إيران لتعويض ذلك عبر افتتاح العديد من مراكز تعليم اللغة الفارسية.
واعترفت وزارة التعليم العالي في حكومة الأسد في 2011، بكلية السيدة رقية لتدريس علوم الشريعة الشيعية العاملة تحت اسم “المعهد العالي المشرق”، كما تقوم الهيئة الاستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق وفروعها في باقي المدن السورية، بنشاط كبير في تعليم اللغة الفارسية، فقد بلغ عدد دورات اللغة الفارسية في مقر الهيئة في دمشق 100 دورة، وفي مركز اللاذقية 52 دورة.
وتدخلت إيران بشكلٍ مباشر في سوريا منذ اندلاع الثورة في 2011، عبر تقديم الدعم اللوجستي والتقني والمالي وتدريب قوات النظام، وإرسال القوات المقاتلة الإيرانية لسوريا للمشاركة في قمع المظاهرات، وفي نهاية 2013 كان يُقدّر عدد المقاتلين الإيرانيين في سوريا بما يقارب عشرة ألاف مقاتل.