لا تغلق المدارس في سوريا أبوابها يوم ميلاد الحزب العملاق، هو يوم للعمل والاحتفال الوطني، يرافقه رفع لعلم البعث الذي يحاكي ألوان العلم الفلسطيني كقضية مركزية مزعومة، تخلى عنها شخوص الحزب منذ بداية حكمهم لصالح البحث عن البقاء والسلطة المطلقة، مع ما حملته من صراع دموي لإقصاء عام طال الأحزاب الأخرى كافة، أو تدجينها ضمن تشكيل هش أطلق عليه الجبهة الوطنية التقدمية، والتي لا يحتفل بأعياد المشكلين لها أسوة بالبعث، ولا يسمح لها بحرية النشاط والتعبير، ويتم إرضاء بعض شخوصها بمناصب وهمية، بعد العملية الجراحية التي أجراها الحكم الأمني في مفاصل الدولة السورية، والتي طالت حتى بعض أعضاء حزب البعث نفسه، ليغدو الحزب شخصاً واحداً.
الأغاني والهتافات والمسيرات والصفقات الطليعية وحلقات الدبكة كانت أكثر ما يميز يوم الحزب المهجوس بمنطلقات فكرية ذات طابع قومي، وبثالوث من الأهداف توسطته الحرية التي ستغدو بعد عقود من تفرد شخوصه بالسلطة خيانة تستوجب الموت والاعتقال.
لم يكن الحزب نفسه يحلم بالوصول إلى الاستحقاق المطلق يوم تأسيسه، ليغدو الحاكم الفعلي بشخوصه لا بأفكاره، ولتفصّل منطلقاته الجديدة على قياس القائد الأوحد الذي يحتاج إلى حزب أوحد يُشرعن وجوده واستمراره الخالد إلى الأبد.
ما قبل الأسد الأب حملت ذكرى السابع من نيسان تاريخياً حقيبة أخرى وذاكرة مضادة في سوريا، من استقالة شكري القوتلي في 6 نيسان 1949 إلى موافقة اللجنة الدستورية بأغلبية 13 صوتاً مقابل عشرة على أن يكون دين رئيس الجمهورية الإسلام في عام 1950، وان تكون حرية الاعتقاد مصونة. كما حمل هذا اليوم في طياته حظر جميع الأحزاب السياسية من قبل أديب الشيشكلي في عام 1952.
وما بعده، وخلال سنوات الثورة على حكم الأسد الابن، حملت ذاكرة هذا اليوم مجازر بحق الشعب الذي كان أغلبه بعثياً في يوم من الأيام، كمجزرة اللطامنة، وضرب القوات الأمريكية في السابع من نيسان لمطار الشعيرات رداً على استخدام النظام للأسلحة الكيميائية في خان شيخون قبل ثلاثة أيام من الضربة.
في مكتبة بيتي كان هناك العديد من الكتب ذات الغلاف الأخضر، بعنوان المنطلقات الفكرية لحزب البعث، لم أجد رغبة في يوم من الأيام بمطالعتها، على الرغم من محاولتي لتصفحها في مرات عديدة، كان الكلام عن كوكب آخر لا يشبه سوريانا، وينافي واقعنا، ولكنه في حقيقة الأمر كان منهجاً عليك حفظه، مع ارتباط تجذر المنطلقات النظرية على الألسنة لتنال حظك في وظيفة في بلدك، أو أن تفاضل على كرسي في الجامعة.
الحزب الذي تحول في ثمانينات القرن الماضي إلى حاكم مطلق يفرض سطوته حتى على القوى الأمنية والجيش، مع الأحداث التي شهدتها سوريا إبان حركة الإخوان المسلمين، صارت هويته هي الهوية العليا في الدولة، ما زلت أذكر تلك الهوية المزينة بعلم سوريا على وجهيها والتي كانت لأخي الأكبر، بطاقة عضوية عاملة تستطيع من خلالها تجاوز دور فرن الخبز، هذا كل ما علق بذاكرتي يوم كنت طفلاً، وحين كبرت عرفت أنها كانت تعني أكثر من رغيف خبز، وتتعدى ذلك إلى ملء مفاصل الدولة بالحزبيين كقاعدة لتثبيت حكم الأسد.
مئات من أصحاب الشهادات المتدنية يتحكمون بمهندسين وأطباء ومدرسين وأساتذة جامعة، لا لشيء سوى لأنهم يملكون صك عبور على شكل هوية، وكأن كل من في هذا الوطن خائن حتى يثبت ولاءه.
تغيرت الصورة في زمن الأسد الابن، لم يعد الحزب مجدياً، وإن كان ما زال أحد الشروط المهمة للانخراط في أي عمل، ربما أصبح الجميع بعثيين، فسياسة “غصب عنك” التي انتهجت في المدارس والجامعات، حولت معظم الأجيال إلى أرقام حزبية. بات كل ارتباطهم بفكر الحزب الذي لم يقرؤوه “كأنا” هو مبلغ زهيد على شكل اشتراكات سنوية، يكلف بتحصيلها أمين الوحدة الشبيبية الذي يتم اختياره بالواسطة ، والذي يحفظ كلمة “رفاق” عن ظهر قلب.
لن أبحث اليوم في مبادئ هذا الحزب ومنطلقاته، ولن أحاول أن أكتب عن المصطلحات التي وردت فيه، لا لشيء إلّا لأن هذه الهوية ما عادت موجودة، ولم تكن جزء من حكم الأسد الابن، الهوية الجديدة تتبع للفرقة الرابعة أو لإحدى ميليشيات الدفاع الوطني، والثمن هذه المرة ليس دوراً على فرن خبز، بل دم وأشلاء وقتل وتعفيش ودمار على مساحة وطن