يحشرني “الكورونا” في غرفتي الباردة، أحاول جاهداً أن يمر هذا اليوم دون تفكير، اللجوء للنوم لم يعد مجدياً بوجود أطفالي الثلاثة الذين ضاقت أرواحهم في المكان، يركضون في الممر الطويل، يقفزون ويصرخون، قبل أن تبدأ نوبة “النق” اليومية حول ما يمكن مشاهدته على اليوتيوب، في الآونة الأخيرة بت أعرف كل أغاني الأطفال وطريقة رسم الفراشة والدب والطاولة والمزهرية، تابعت حلقات “ماشا” كلها، كذلك “بيبي بص” و “دنيا روزي”، أعدت معهم استذكار “السنافر” يخاطبني طفلي بـ “بابا سنفور ويضحك لذقني الفوضوية”، ويوزع علينا الألقاب بين “السنفورة والذكي والكسول” قبل أن يصل إلى والدته ليسألنا أين “ماما سنفور”؟
عند حلقات “سالي” تسألني طفلتي عن “الشر” المتمثل بوجه الآنسة “مينشن”، لماذا يوجد “أشرار في العالم”، وكيف تحولت “سالي إلى خادمة”، تطلب مني صديقة كـ “فيكي”، وصديقاً كـ “بيتر”، أعصر مخيلتي لأبحث لها عن أمثلة في حياتها ولكني لا أجد، المسافة بينها وبين من يعرفهم والدها وعاشوا معه ذاكرته الأولى آلاف الكيلو مترات، ولا وجود لساحر أو بساط علاء الدين ينقلنا إلى هناك.
تقول زوجتي إنه في صباح هذا اليوم أكملنا عاماً كاملاً من لجوئنا، تمد يدها إلى جوالها وتكتب ما معناه “أننا لم ننجز شيئاً”، أنظر في وجهها علّها تخفف وطأة الجملة، تراوغ وهي تخبرني “أنها ربحتني”، فهل حقاً فعلت!
خيبات بالجملة هو ما يغلف وجودنا في هذا المكان، قلت وأنا أبدأ كتابتي الصباحية والتي تحولت إلى عملي اليومي، ورحت أسرد قبل أن أمحو ما كتبت، لم أتعلم اللغة حتى الآن، لم أحصل على الإقامة ولم أحظى بمقابلة أيضاً، لم أستطع الحصول على إذن للعمل، لم أترك لأطفالي جزء من وقتي لتعليمهم العربية كما كنت أخطط، لم أدخل في أي اندماج، لم أشكل صداقات بعيدة عن المجتمع السوري الذي ما زلت أعيش تفاصيله، ونعيد معاً، أنا وهم، تذكر ما عشناه لا ما سنعيشه. ما زالت الكتب التي جلبتها معي صديقتي في غربتي. ساعات العمل عبر الانترنيت زادت. التواصل الاجتماعي قلّ واقتصر على محادثات عابرة وإرسال الحوالات المالية، الدخان تضاعف وانحرف نحو الرداءة بالنوع، الطعام اختلف مذاقه وتحول حرفياً إلى “حشو مصران”. ساعات التعلق بالهاتف المحمول زادت أيضاً، وصل المعدل بحسب الفيس بوك إلى ست ساعات يومياً، أما اللعبة التي وضعتها على هاتفي فقد استهلكت خلال هذا الشهر خمساً وثمانين ساعة من حياتي.
نجاحات بالجملة أيضاً تقابل تلك الخيبات التي نقسو فيها على أنفسنا، أحاول جاهداً أن لا أفتش عنها كإبرة في كوم قش، هنا لا نخاف نحن من “بكرى”، ليس مهماً إن كان “أحلى” ولكننا لا نخاف، مرات كثيرة حاولت كتابة وصيتي على سبيل المثال، من الذي يحتاجها أقول في نفسي وأنا أتراجع عما بدأت به، لا تخفي النساء هنا مصاغها لحفر أساسات منزل، لسنا بحاجة لجمعيات بمبالغ شهرية نتقاتل فيها على الأدوار الأولى لشراء ثلاجة وبعض أثاث، لا نخفي بعضاً من النقود الشهرية لمواسم شراء كالأعياد، ليس لأن المال متوافر في الطرقات، بل أقله أنك تعرف ضمن وجودك في هذه البقعة أنك ستعيش، أياً كانت الظروف القادمة، إلا أن هناك مفهوم للدولة سيتكفل بكسلك وخوفك وأطفالك بالحد الأدنى.
ليس ذلك نجاح شخصي بإمكان الإنسان أن ينسبه لنفسه، سأقول لكم إني أعمل، ستضحكون عند هذه الجملة باعتبار أن العمل هو حالة لا تستحق وصفها بالنجاحات أو الإنجازات، سأخبركم أنها كذلك هنا، أن تستمر في عملك ذلك إنجاز يمكن أن يعزوه الإنسان لنفسه وللظروف المحيطة به، منذ صعدت إلى الطائرة قبل عام كامل قررت أن أتابع عملي، لا أريد للاكتئاب والتعب أن ينالا مني، كتبت مادتي الأولى في الطائرة وتابعت حتى اللحظة، في كل مرة كان يشدني الكسل للتوقف كان سلم الأولويات التي وضعتها لحياتي القادمة يدفعني للوقوف من جديد.
منذ أيام خطر في بالي ما قاله والدي رحمه الله يوم سألته، هو الذي يعمل نحو ست عشرة ساعة يومياً، عن التعب، لم يجبني وقتها، قال إن الأمر لا يمكن شرحه، الوقت وحده من سيخبرك، الأولاد أيضاً إن أصبحت أباً، والأشخاص الذين يرتبط عملك بشيء من حياتهم.
الأولويات، كلمة مفتاحية تستطيع من خلالها ترتيب حياتك، كذلك تمنحك الحق بالاختباء وراء التقصير الذي نعيشه كلنا تجاه من حولنا، تحتج لأطفالك بالأولويات، لزوجتك، لأمك، لمن حولك، لأشخاص تواصلوا معك بعد زمن وارتباك مخافة “كسرة النفس”، وهي نفسها الكلمة التي بإمكانها اليوم أن تريح “ضميرك” كي تحظى ببعض النوم القلق.
الدول لها سلم أولويات، الصحافة أيضاً، المنظمات الإنسانية، الأمهات والآباء، الأطفال بحسب أعمارهم، تتداخل كل تلك الأشياء مع بعضها وتغير المفاهيم التي وضعتها سلفاً في حياتك، الثورات أيضاً لها أولويات. في حالتنا السورية انقسمت تلك الأولويات، إسقاط النظام أولوية قبل أن نبدأ بالبناء، المرتدين أولى بالقتال من الكفرة، التعليم أولى من الغذاء، المأوى هو الذي يتصدر الأولويات، الصحة هي الأولى، المخيمات أولى من البيوت، عائلات الشهداء هم الأولى، المقاتلون أولى…
في مفهوم الأولويات نختلف بطريقة تعاطينا مع الأفكار، لا يمكن أن نضع سلماً واحداً نتفق عليه، ففي الوقت الذي نواجه فيه فايروس كورونا على سبيل المثال، نجد التوعية أولوية، ونصطدم في كل مرة حول أهمية هذه التوعية إن لم تتوافر أدواتها، تأمين الصابون والمعقمات والكمامات وو، مقابل توفير المياه أو مراحيض ليست عامة ولا يقف الأهالي طوابير على صنبور مياه إن توفرت، تأمين بطارية كهرباء لإشغال “لدّ” ألا يعتبر أولوية، إذن علينا أن لا ننسى في زحمة الأولويات تلك التي كانت منذ وقت قصير تتصدر قوائم تفكيرنا، والتي أيضاً لم نفلح بإيجاد حل جذري لها، يشبه الأمر توزيع الجهود، يخطر في بالي علبة الدهان الصغيرة التي حرنا في استخدامها، هي لا تكفي إلا لتغطية جزء صغير من الحائط، فهل من الأفضل أن نغطي العيوب الكثيرة المنتشرة في الغرفة، أم البدء بالجزء الأول لنكمله إن أتيحت لنا الظروف، كلا المشهدان لن يحل المشكلة وهو جوهر ما نصارعه في مواجهة الهشاشة في كل القطاعات السورية (الصحة -التعليم -الحياة العامة -العمل والقائمة تطول..)
افعل ما عليك، تلك الجملة التي تأتي بصيغة الأمر وتتعداه للرجاء، وفي زحمة البحث في النصف الثاني من الجملة “ما عليك”، يجب أن تبحث في إمكانية وجود إجابات عن حياتك الشخصية، أين أنت، لماذا هناك “أشرار في العالم”، هل الكهرباء ضرورة، كيف بإمكانك التخلي عن حالة القلق التي تعيشها؟ لا تقف طويلاً عند هذه الأسئلة وتذكر أن عليك أن تعيش، أياً كان مكانك، في جزء منك على الأقل كـ “سوري” ينتمي لتلك البقعة الجغرافية التي أصبح فيها كل شيء أولوية.