لا يُهمُّني اليوم أن أبحث في تاريخ أمومتك، رغم أن فضولي كان دوماً يدفعني لأفك الارتباط بين حديثي عنكِ وبحثي عن روابط من اختاروا في مفرداتهم أن يصيّروك وطناً.
في الفراغ الذي أعانيه وأنا أكتبك يوم حضورك الاستثنائي في ذاكرتي، علمت أن القدماء حيث اخترعوا آلهة خَصُّوكِ بأقواها وجعلوها عيداً مع الأرض يوم يُزهرُ أوّلُ اللوزِ وتأبى سماء آذار إلا أن تنثر خيرها على بقعة الوجود التي هي أنت.
ولدتِ يا أمي قبل أن يُعلن وطني يومك الوطني بسنوات، فكيف كنت وطناً قبل أن يُخلق آذار، وكيف حملت الأمومة في قلبك قبل أن يبدأ الوطن بإصدار وجهك على أول طابع بريدي، ربّما كنتِ أنت العلَّة الوحيدة لاختلاق هذا اليوم لا خلْقه، وربما أصبح عيدك المتداول قضية رابحة للمحال وبائعي الزهور، أنت المرتبطة دوماً بالقضايا الرابحة أمام فيض ما تشعرين به وما تقدمين.
” من يخلق منك عظيماً يقتلك ” قتلناك يا أمي يوم أورثناك مرض السكر وقرحة المعدة وضغط الدم وضعفاً في الرؤية وشيخوخة العظماء، وأنت تسهرين وتعملين وتبكين خيباتنا وحبيباتنا وزواجنا وعقدنا النفسية واستحضار غصتنا، يوم أن أنهكنا البعد وتركنا لك الطعام بارداً وأنت تنتظرين حلولنا حول مائدتك صاحبة المذاق الأول والنكهة البكر.
هنا يا أمي نعيش منفانا وتعيشين قلقك وحيدة هناك، نعيش انتماءاتنا السياسية والفكرية وحب المال والخوف على أطفالنا وأنت لا تعيشين هناك خوفاً علينا من ذلك كله، أمي التي لا تفهم السياسة ولا تعرف الأحرف الفرنسية ولا تجيد القراءة كانت الوقت الأول الذي حملناه معنا في رحلة الانتماءات الجديدة، أبتسم لكِ حين مات جمال عبد الناصر وبكى كل الرجال وأنت تصلحين “قن الدجاج” ذلك أن جمال عبد الناصر لن يمنع الثعلب من قتل دجاجاتك ولن يأتي لأطفالك ببيض لفطور الصباح، تلك هي السياسة الأعظم يا أمي.
لكنا أضعنا مع أوطاننا لغتك وإصرارك على الحياة وإيمانك أنت التي تحفظين من القرآن الفاتحة والإخلاص وتكرريهما في كل صلاة، وتعرفين كيف يكون باب الدعاء مفتوحاً أمام يديك المفتوحتين ونحن الذين نجيد كل أحكام التجويد والقراءة وأضعنا إيماننا، في الطريق نسينا أيدينا مسبلة أمام الله وفتحناها لكل القاتلين والسارقين وعمال الإغاثة.
يا أجمل الأمهات ها نحن نبكي وطناً “لم نستطع الحفاظ عليه” وها أنت تبكين رجالاً لم يحملوا من قلبك سوى هذا اليوم وبعض الذاكرة والكثير من الانحناء.
من يكبر مَن يا أمي/ طفلتي، يوم كنتِ وأنا طفلان أجلس في حضنك وتحدين لي وأضحك لما كنت لا أعيره انتباهاً، ما كان لي صوت وقتها، كنت أضحك وكنت تزدادين غناء وحناناً. “نسيت أن أخبرك أن صوتك لم يكن جميلاً وقتها، وكنت أضحك فقط للطريقة التي تحمليني بها على قدميك”
كبرنا معاً يا أمي وعودتني على التوابل القليلة وأخذت منك كرهي للبصل والثوم، وحبي للقهوة الخفيفة التي لا تجيدين صنعها أيضاً. تعرفت بعدها على كل الأطعمة وغليت قهوتي بنفسي وصار فمي كله لي وفقدت طعم الصبا يا أمي.
أمي أنت ككل الأمهات لست عظيمة، تماديت في دور الأمومة حتى استهلك قلبك وشغلك عن الاعتناء بوجهك الجميل فأورثناك كيساً كبيراً من الأدوية والألم. صرت أطول منك، وصار لي طفلة أرجوها تشبهك، وصار لي زوجة تصنع طعامي وقهوتي كما أشتهي لا كما كان قلبك يفعل، وصرت أغضب لا لأني جائع أو لأهرب من طريقتك في غسل وجهي كل نصف ساعة.
لأن اليوم عيدك أنت، لا كما نختبئ لنقول ” الأم كل يوم عندا عيد، وفرحتا لما بتشوفنا ناجحين”، عليّ أن أبوح لك يوم عيدك أني فشلت دوماً في حب طعام لم تصنعه يدك “التي لا تجيد الطبخ”، وحب امرأة ليس لها استدارة وجهك وكحل عينيك الحجري.
سؤال أخير يا أمي
ما الذي كان ينهزم في دمك كلما عددتِ أضلعك فنقصت أنا؟