خطّت الفتيات منازلهن فوق طين المخيم، قسمت كل مجموعة منهن الفسحة التي اخترنها إلى غرف عديدة، مطابخ، حمامات، مساحة مكشوفة للعب، أبواب للدخول والخروج. عدّتهن في ذلك الحصى والحجارة وعلب السردين وسط مرح طفولي وذاكرة استعرن فيها أشكال منازلهن القديمة، بعيداً عن الخيام التي باتت عنوان سكنهن الحالي.
أكملت صورة الخيام المحيطة بفسحة ألعاب الفتيات المشهد غير الاعتيادي، عشرات الخيام الصغيرة التي تفصلها عن بعضها البعض أزقة ضيقة، غسيل نشرته الأمهات على حبل الخيمة بألوان وأشكال مختلفة، وشمس الضحى التي بثت الدفء في المخيم الذي لا يحمل من اسمه الذي أطلق عليه “الأرض الطيبة” نصيب، فالمكان أرض جرداء قاحلة تتناثر فيه شجيرات زيتون “قزمة” متشبثة بالصخور علها تعيش. ضمن هذا المشهد كانت صغيرات المخيم ترسمن “بيت بيوت” (لعبة تشكيل المنازل بالحصى والطين) بأيديهن الصغيرة المغموسة بالوحل.
ضحوة ذلك اليوم لم يكن الأطفال في مدارسهم ككل يوم منذ نزوحهم، معظم فتيات المخيم الصغيرات كنّ يمارسن لعبة “بيت بيوت”. بعيداً عنهن كان الأطفال من الذكور يمارسون ألعاباً أخرى مستفيدين من دفء الشمس الذي غاب عنهم لأشهر مضت، بات الطين والحجارة معظم ألعابهم بعد أن تركوا في منازلهم ألعابهم القديمة ومقاعد دراستهم وتوجهوا رفقة عائلاتهم إلى مصير مجهول، كل ما حملته لهم الأشهر الماضية كان البرد والفقر والمعاناة والخيام الضيقة، تقول لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة في تقرير لها، إن خمسة ملايين طفل داخل سوريا وخارجها يعيشون ظروفاً إنسانية صعبة، مليونان منهم لا يتلقون التعليم.
من بيتها الحجري الصغير الذي خطت حصياته بيديها رفقة صديقاتها، تخرج مروة معتمدة على حس تمثيلي لإيهامنا بالحقيقة، ترتدي كنزة زهرية اللون وبيجاما رمادية وتستر قدميها ببابوج صغير أزرق اللون، تبتسم لنا وهي ترد شمس الضحى عن خصلات شعرها الأشقر وعينيها الخضراوين اللامعتين، تمد يدها لنا لتعرفنا بمنزلها الجديد “هذا بيتنا.. عملناه من شوي، بيت كبير -تشدد على الياء وتطيلها- فيه كومة غرف، وعمنساوي حلو لناكلو ونلعب أنا ورفقاتي”، تخبرنا عن تفاصيل ما فعلنه وهي ترتب علب السردين الفارغة وأدوات المطبخ البلاستيكية الصغيرة كسيدة في الثلاثين، تفرح وهي تشاهد الكاميرا التي نحملها تصور ما أنجزته وصديقاتها لتبادرنا بسؤال طفولي “حلو بيتنا مو؟”
“حلو متلك” لا شعورياً نخبرها كرد واحد لا يمكن أن نحيد عنه، نطلب إليها مقارنة جماله بـ “خيمتها”، تضحك بعد لحظة صمت “بيتنا بالضيعة أحلى من التنين، هداك بيت حقيقي وفيه كل ألعابي”.
تحتاج مروة وصديقاتها بيتاً عبرت عنه بوصف “حقيقي”، كل تلك الخيام مؤقتة ولا تحمل ملامح جادة لتصبح منازل الأطفال القادمة، لم تكن مروة ورفيقاتها يلعبن، كنّ مجازاً يستعدن ما فقدنه، بيت دافئ بغرف كثيرة وخصوصية، ألعاب، وفسحة من الحرية بعيداً عن ضيق الخيام ونزق الأمهات.
غصون (صديقة مروة) ظهرت كأمّ لرفيقاتها، كانت تلف قطع الطين بأشكال مختلفة، بعضها مدور أو مسطح ليأخذ شكل قطع الحلوى، تضعها ضمن قوالب لتبدأ من جديد، تقول الصغيرة إنها تحاكي ما كانت تفعله أمها وأقرباؤها عند صناعة حلوى العيد، يجتمعن معاً في منزل واحد وتملأ الرائحة المكان، تختصر غصون المشهد “بكنا مبسوطين، وهلق هم نساوي متلون لننبسط”.
تراقبنا الحاجة أم سعيد كدخلاء على المشهد الذي كانت تتابعه بدقة، تصمت مع اقترابنا نحوها، وبعد أن تأنس لنا تخبرنا عن اللعبة القديمة التي عرفتها منذ طفولتها، قبل ستين عاماً، إلا أنها المرة الأولى التي شعرت وهي تراقبها بالألم، “عين على بيوت اللعبة وأخرى على زحمة الخيام”، تقول وهي تصف إحساسها “كنت قبل لما شوف البنات عبتعمر بيوت، عيط عليهن لاتلوتو تيباكن، أما هلق عم طلع ع مربعات الغرف وكترها، وينحرق قلبي عبيوت الضيعة الي راحت، واختنقنا بعدها بهاي الخيم”.
تحمل الصغيرة ورفيقاتها أطباق “حلوى الطين”، يتبادلن الضيافة بينهن وسط سعادة لا تخفي وجع ما يعشنه في الواقع، الطين الذي التصق بأصابعهن الدقيقة وترك آثاره على ثيابهن، ربما سينلن نصيبهن بعد ساعات من غضب الأمهات اللواتي سيغسلن أحلامهن ويعلقنها على حبل الخيمة من جديد.