أظهر ما تم إنتاجه من مسلسلات وأفلام في سوريا خلال العقود الماضية شخصية المثقف ، وربط بين النضال السياسي وعرق هذا النضال والحياة الغنية التي عاشها بوصفها حالة مشتهاة، من الحرية والقراءة والنقاشات العميقة، وبين دخوله إلى المعتقل، فهو في ذلك أكثر المحبين لوطنه وأقدرهم على شرح هذا الحب، وهو أيضاً معاد للسلطة الحاكمة لما يمتاز به من حرية أصيلة تحكم توجهاته وقراءاته، ناهيك عن ثقافته العالية التي تمنحه القدرة على توجيه النقد لكافة فئات المجتمع.
هو ضد نفسه إن استلم يوماً مفاصل الحكم، تلك مقولة غذيناها خلال مراحل طويلة من حياتنا، وهو ما دفعنا إلى التعلق بكاريزما رسمناها في مخيلاتنا، عن طقوسهم اليومية وحياتهم الاعتيادية، لطالما حاكيناها بطريقة مسكهم لسجائرهم، ببساطة الطعام الذي يتناولونه، وإضفاء حالة من الرمزية للفلافل والفول والمسبحة.
قلدناهم بلباسهم ومصطلحاتهم، بتسريحة شعرهم، كذلك بأفكارهم التي لم نكن نفهم أكثرها، لكن يكفي أنهم من يرددها في كل مجلس. والأهم من ذلك بطريقة حديثهم قبل أن يتحول الكلام إلى تنظير لا طائل منه.
في مشهد متخيل لـ مثقف قديم، عليه بداية أن يذكرك بأنك لم تعش زمن الثورات والتغيرات الكبرى، لم تناضل لإيصال قصاصة ورق عليها تعليمات أو موقف ودفعت ثمنها سنوات طويلة من حياتك في المعتقلات، لم تجابه سجاناً ولا محققاً ولم تنل منه أيضاً كما نال من جسدك، عليه أن يحبطك بأنك لا تصلح، وأن حجم قراءاتك ونوعيتها موبوءة وفاشلة، في الوقت نفسه عليه أن يرتاح في كرسيه ليضع قدمه بالقرب من وجهك، وهو يذكر أسماء كبرى يفاخر بمعرفتها، لا بد وأن يضيف في معرض حديثه كلمات من لغة ثانية ومفاهيم يخترعها أو اخترعها آخرون يشبهونه ولا يشبهونك، هو في قرارة نفسه لا يحترمهم وينال منهم في جلسات أخرى لا تكون أنت جزء منها، /أنت هنا تعني نحن/ يدهشك بحجم ضعف معرفتك لا بغنى ما يملك، ويجبرك على السكوت والصمت.
يحمل بيده مشروباً يقول إنه عتاده، في الطريق يتفه كل خياراتك بما تشتهي أن تشرب، وبالضد دوماً، حتى لو صادف أنك تشرب ما يختاره هو، يخبرك أن الطريقة في الشرب هي الفارق بين هاوِ هو أنت، ومحترف يمثله.
يعيد عليك الفكرة مراراً وتكراراً، تحفظها ولا يعتقك، يعطيك الأمثلة ذاتها عن الفكرة نفسها وغيرها في آن معاً، وعليك أن تصدقه قبل أن ينتفض بجلسته، دون أن يرتب شعره الأشعث أو بنطاله الذي تجعد من كثرة الجلوس، ويخبرك أنه ذاهب وهو ينظر إليك كأنك “اللاشيء”.
يقابله دائماً في المسلسلات والأفلام والواقع، شخصية المسؤول النمطية، بكلامه البعثي ومرافقته، وإنهاك نفسه بعمل لا تعرفه، ولعله حل للكلمات المتقاطعة، قبل أن يبدأ بمحاضرته التي تجبر أيضاً على سماعها، هذه المرة خوفاً لا رغبة ودون دهشة، وبمصطلحات هي الأخرى تكاد تتطابق، ولا ينقصها سوى ترديد الشعار، مع الاحتفاظ بمعالم وجهك كيفما يريد لها، تصفق حين يحتاج للتصفيق لا حين تطرب، وتهتف حين يريد لك ذلك، وتمتعض حين يمتعض، وتشتم حين يبدأ بالسباب.
بين هذا وذاك يبني الشباب أحلامهم، مع وجود فئة ثالثة ليست هذا أو ذاك، تلك فئة اختارت العيش بعيداً، وحدها دون ذكر، بينهم طلاب ومهنيون وأصحاب شهادات عالية، حياتهم تختصر بين العمل والمنزل، لاحقاً يضاف إليها مهام كالزواج وتربية الأطفال.
لم تكن الثورة السورية حدثاً اعتيادياً، خاصة وأنها في بداياتها الأولى قلبت هذه المفاهيم، بات لكل من لحق ركبها سيرته الذاتية وصوته الذي يستطيع من خلالهما قول ما يريد، إسقاط الهالة المقدسة حول شخصيات ما كان يجرؤ أحد على انتقادها، كذلك الأمر بات من المسموح المقارنة، اعتقال يقابل اعتقال ونضال يقابل نضال، وشاي مقابل القهوة، وحياة مقابل حياة، والأهم من ذلك نجاح مقابل فشل.
تحول النموذج المشتهى إلى شكل آخر، صيغت في سبيل ذلك الكثير من أحلام اليقظة وربما المبالغة والشهادات الكاذبة، تخيلنا أننا كنا معاً في المظاهرات الأولى، جميعنا ثائر بدرجة واحدة، معظمنا يُسرّ بحمله للسلاح لأشخاص محددين، وينكره في جلسات أخرى، معظمنا اعتقل أو اصطدم بعناصر للأمن أو الشبيحة، جميعنا “قالوا لنا” ولكنا لم نسمعهم عند كل انتكاسة، وأكثرنا بصدد كتابة “رواية” حول ما اختزنته ذاكرته.
أطحنا بأشخاص وحاربنا في مخيلتنا فصائل انتهت سطوتها منذ زمن، أسقطنا خيباتنا عليها، ونظرنا للقادم بمفهوم العارف، ودون أن ندري تحولنا إلى واحد من ثلاثة، شخصية المثقف القديم أو المسؤول أو ذلك الذي ارتضى أن يكمل حياته على الهامش.
منذ أيام وفي واحدة من الجلسات الثورية، كان يجلس أحدنا واضعاً رجلاً على رجل في المقهى، وهو ينال من شبان صغار، يحكي لهم أن من لم يشهد المظاهرات الأولى لا يمكن أن يعرف الثورة أو يشعر بها، لينهي حديثه بالوقوف والابتعاد خوفاً من إضاعة الوقت، كان ينقصه بحق أن يردد الشعار ويبدأ بحل المكالمة المتقاطعة.