تتكرر الأحداث، قصف يخلف دماراً هائلاً، صمود مؤقت للعائلات خوف الدخول في مصير مجهول من جديد، قضم لمناطق جديدة يرافقه يأس وانكسار. ثورة تتأجج في لحظة ثم تخبو. جدل حول البقاء أو الخروج. مهاترات حول أهمية الأشياء التي يتوجب رحيلها مع سكانها. جيوب شبه فارغة تعزز إحباط الرجال وتجبرهم على البكاء. أطفال يحسمون الموقف فالإبقاء على أحلامهم بمكان شبه آمن يوقف الضجيج الحاصل ويفرض بسطوته الابتعاد قدر الإمكان بهم أيا كانت الوجهة والظروف.
ودعت قريتي “سرجة” بريف إدلب الجنوبي، كان احتلال معرة النعمان قد ضيق الخناق على الجميع، وحدت النظرة الحائرة وجوه سكان القرية، وكان السؤال المسيطر على العقول، إلى أين هذه المرة؟
خيارات قليلة بقيت أمام معظم من تبقى من السكان بريفي إدلب وحماه، إلا أنها كانت شبه محسومة بعد صعوبة الحصول على منزل في مدن اكتظت بسكانها، وسكنت حتى خراباتها ودكاكينها. الخيام هو ما ينتظرنا مع فارق وحيد، أين سينصب العربي خيمته هذه المرة، وهل يملك خيمة أو ثمنها؟
الزمن كان نهاية العام ٢٠١٩، والتوقيت مع حلول ساعات الفجر الأولى، أما المكان فكان ريف حلب الغربي بالنسبة لي رفقة عائلتي، بينما توزع أقربائي وسكان قريتي على طول الشريط الحدودي، لم تعد الجغرافيا تصلح لاحتواء موجات جديدة من البشر، قلت وأنا أشاهد مئات الحافلات تمر ببطء نتيجة الازدحام من أمامي. علينا أن نملأ ما بقي من ثقوب لا أعرف كيف سيطرة علي فكرة الثقوب هذه، وتخيلت أن “طياناً” يمرر الطين على وجهي وجسدي المتعبان، وأن ملامحنا ستضيع منذ ذلك الوقت، وسيعجز حتى الواتس آب عن لملمتنا في غرفة واحدة، كما احتوتنا “سرجة” مئات السنوات.
في الطريق كان لا بد أن نعرج على أريحا، مدينتنا التي ننتمي إليها، مررنا بشوارعها وبيوتها ومحالها وسوق هالها وفرن الخبز، حاولت أن ألمس جدران الحارات القديمة إلا أن يدي القصيرتان لم تفلحا بذلك، فاكتفيت بالتلويح لها من بعيد.
كنت محظوظة لحصولنا على بيت في مدينة الأتارب بريف حلب الغربي، مجدداً وكعادتي حاولت أن أبني علاقتي الشخصية مع أزقة المدينة الجديدة، أختار بائع الخضار الذي سأزوره في كل يوم، صاحب الدكان، الصيدلاني، كنت أتفرس بالوجوه لعلي أجد وجوهاً متشابهة للذين تركتهم هناك في “سرجة”، كنت أريد أن أجد مبرراً لعدم قدرتي على التأقلم، لكني لم أفلح في ذلك، فالأماكن تسكن ساكنيها رغماً عن أنوفهم.
شهر ونصف الشهر وجميع من حولي يتابع غرف الأخبار للحديث عن عودة مرتقبة، أو ربما للاطمئنان عن المكان الجديد عله لا يغدو مؤقتاً هو الآخر.
الحديث عن الصمود وعدم النزوح مع بداية وصول أصوات القصف إلى أطراف الأتارب أعادني إلى قريتي، مر الكلام أمامي وكأني أعرفه وعشته منذ وقت مضى، لا دخل لأمنياتي فيما يحدث، إلا أن أطناناً من اليأس والإحباط كان ترافقني وتدفعني للحديث عن نزوح آخر سيطال المدينة بعد أيام.
سقطت كلمات الثبات من جديد بعد بدء الغارات المكثفة على المدينة “الرجال يصرخون بزوجاتهم لعجزهن عن توضيب بعض ما يحتاجونه، أطفال تبكي ألعابهم الممزقة أو تلك التي رماها الآباء لضيق المكان، بكاء رجال مسنين وهم يحوقلون ويرجون الله أن يستر شيبهم بعد هذه السنوات”.
خرج معظم سكان المدينة نحو مجهول آخر، بقيت أنا وعائلتي في مكاننا، إلا أن قصفاً مكثفاً بمرور الدقائق مساء ذلك اليوم من كانون الثاني الماضي وخوف الأطفال وبكائهم بدأ يفرض وجوده على قرارنا بالبقاء، كانت ليلة طويلة حملت صرخة هستيرية لطفل من عائلتي يريد العودة إلى المنزل بعد أن أيقظه صوت راجمة الصواريخ، أردت أن أقول له عن أي منزل تتحدث؟ لكني شعرت بحماقتي قبل أن أجلد صغيراً بكلمات بائسة، وعرفت أنه حان وقت الرحيل من جديد.
مساء اليوم التالي كنا قد جهزنا أنفسنا استعداداً لرحيل طارئ، ومع بداية القصف الجديد الذي سط بالقرب منا حملنا “بعض ملابس الأطفال والوثائق الرسمية والأجهزة المحمولة” على الدراجات النارية لاستحالة العثور على حافلة وبدأنا رحلتنا الجديدة، هذه المرة دون وجهة.
الليل الحالك دون رؤية معالم الطريق، بدا الأشخاص كأنهم جن يسكن الطرقات، ظلال من الأشياء المتحركة في الظلمة، صوت هدير محرك السيارات كان يوقظك من مخاوفك ويعيدك إلى الواقع، لا أضواء يسمح بإنارتها تجنباً لاستهداف “الحربي الرشاش”، مرّ صوت الصاروخ من فوق رؤوسنا، تسمرنا جميعاً، وعند التفاتنا للضوء الذي أحدثه انفجاره عرفنا أنه الفرن الآلي في المدينة، ساد الصمت قبل أن يبدأ موكب الظلال بالتحرك من جديد.
سلكنا طريقاً وعراً لا يمكن للحافلات السير فيه علنا نصل إلى أقرب قرية نمضي فيها ليلتنا، صوت الأجهزة اللاسلكية (القبضات) وحده ما يسمع في المكان، لم أشعر بالبرد على الدراجة النارية رغم قسوة المناخ وتساقط الثلج الذي تواطأ مع الطائرات لزيادة معاناتنا، البحث عن النجاة كان قد أشعل في قلوبنا ما يدفئها، غير أني شعرت بدمي يتجمد على أطراف أصابعي التي نسيتها دون كفوف، خلفنا كان لهيب القصف يخفف من عتمة الطريق الذي سلكناه.
في الصباح كان أب وابنه قد فارقا الحياة بعد استهدافهما خلال رحلة النزوح من المدينة، وكان البحث عن خيمة أو منزل سيستهدف بعد وقت قصير هو الآخر ما يشغل بالنا ويحدد أحاديثنا وقراراتنا.
عند وصولنا إلى قرية السحارة، نام الأطفال ملء جفونهم من التعب، وتآمر القلق علي وأنا أفكر في مصيرنا القادم، في القرية الجديدة كانت عائلات كثيرة قد افترشت كل شارع وبيت وزقاق، سكان القرية أيضاً شعروا بالخطر القادم إليهم وباتوا يعيدون ما خبرناه سابقاً من أحاديث، بالقرب مني كان رجل كبير بالسن يتحدث عن بقاء زوجته في منزلهم، أخبرنا أنها أعطته هويته الشخصية وساعته القديمة وطلبت إليه الرحيل، هي ستبقى في منزلها ولن تخرج أبداً. سيدة أخرى كانت تقول إنها ستأخذ بعض الأشياء القليلة لرحلة قصيرة ستعود بعدها إلى منزلها، رجل يحاول أن يتحلى بالصبر وهو يقفل باب منزله ويمسح جدرانه بيديه، آخر يودع أطفاله وزوجته ويبكيهم بعد أن قرر البقاء للدفاع عن قريته، طلب منهم أن يسامحوه، بكى أطفاله وزوجته وبكينا جميعاً معهم، كنا نحتاج من يدفعنا للبكاء لوحنا له كأنه أحد أفراد أسرتنا، دعونا له ولمن معه بالحياة والصمود وخجلنا من أنفسنا ونزوحنا في وقت واحد.
سيدة تركت أطفالها عهدة بالقرب منا، قالت إنها ستذهب لطمس معالم قبر ابنها الشهيد كي لا يدنسه أحد من الشبيحة، على السطح كان أحد مربي الحمام يطلق حمامه بعيداً ويصرخ به أن لا يعود، قطط وكلاب في الشوارع تسير معنا كيفما اتجهنا، دجاج يبحث عن طعام بعيداً عن ازدحامنا بعد أن فتح له أصحابه باب القن وتركوه لمصيره، طفل يحمل سيفاً من خشب ويهوي به على أقرانه، وصغيرة تتعلق بثوب أمها بوجهها القشيب من كثرة البرد، كل ذلك اجتمع في لوحة واحدة لم تسعفني لغتي بإطلاق عنوان لها سوى “التيه”.
حاولت الاتصال بمن أعرفهم من العاملين في المنظمات الإنسانية لإخلاء السكان، وصل بعضهم لنقل الأفراد فقط، لا مكان لك ولأشيائك، وعليك أن تختار بين ذاكرتك وبينك، بعض المنظمات فتحت مراكز إيواء مؤقتة، بنيت على عجل خيام عشوائية، وزعت بعض السلل الغذائية والوجبات، إلا أن حجم الوافدين أكبر من الاستجابة، اكتظت المراكز وبات العراء حلاً وحيداً أمام من تبقى.
الثلج المتساقط على الطريق ترك آثار قسوته على وجوه الأطفال وزيديهم، بعضهم بال في ثيابه، أخرون يرتجفون في صناديق السيارات المكشوفة بعد أن لفوا أنفسهم بالأغطية ووضعوا على رؤوسهم أكياساً من النايلون للاحتماء من الثلج والمطر المتساقط، الطريق المزدحم نحو عفرين والساعات الطويلة التي قضيناها قبل الوصول يوحي بأنك تقطع الحدود إلى دولة أخرى، سيارات محملة ذهاباً وأخرى فارغة في الإياب لنقل من تستطيع من جديد، لا ينتهي هذا الطريق قلت وأنا أحاول تدفئة يد أخي صغير بين يدي.
قالت لي سيدة التقيتها بعد وصولنا إنها أمضت وأطفالها ثلاثة أيام في الطريق، وإنها نجت بمعجزة بائع بنزين، أخبرتني إنه أشعل ناراً لتدفئة أطفالها وقدم لهم بعض المأكولات والمياه، قبل أن يكملوا رحلتهم، كانت السيدة تحمل خيمتها باحثة عن مكان لنصبها.
يمكن للإنسان تخيل ما حد ويحدث في كل يوم هنا، إلا أنه لن يستطيع أن يقدر حجم الألم، فراق النساء لأزواجهن وبيوتهن، بكاء الأطفال، قهر الرجال وعجزهم، خيمة تعدو حلماً، وجبة غذاء كاملة ومكان دافئ، يد تمتد لانتشالنا من هذا التيه الذي لا ينتهي.