تجلس أم محمد أمام منزلها في جبل الزاوية كعادتها في شتاءات قريتها الباردة، رصفت بعض الحجارة منذ زمن لا تذكره، إلا أنها كانت في “عز صباها” كما تقول لنا، وهيأتها لتكون مقعداً لها ولرفيقاتها اللواتي فقدتهن واحدة تلو أخرى، ما زاد حزن أم محمد نزوح كل البيوت المحيطة بها لتبقى وحيدة تعبث بغصن رمان يابس بين يدها وهي ترسم خطوطاً غير مفهومة وتدير ظهرها للشمس الخجولة التي خففت من البرد الذي ينخر عظامها.
لساعات لم يمر أي شخص من أمامها، تخبرنا أم محمد، إلا أن بعض الشبان ما زالوا في القرية التي خلت من سكانها هرباً من المعارك، ويمرون بها للاطمئنان عن صحتها وتلبية بعض حاجياتها القليلة، يكفي أن تنظر في وجوههم لتعرف عائلاتهم، تقول إن تلك “ميزة لا يوفرها لها النزوح خارج بيتها، فالخيام تخفي ملامح الأشخاص”.
لا تعيب أم محمد على النازحين خروجهم، تقول إن بقية من حياة ما زالت تنتظرهم، أما عن بقائها فتقول إن اقتلاعها من بيتها يشبه الموت، وتحرك يديها في إشارة مفهومة، ما الفرق؟
يمثل الأطفال وكبار السن المأساة الأكبر في التغطيات الإعلامية لواقع الحال في مناطق المعارضة، أملاً بحصد تعاطف أكبر أو تأثير دولي يوقف ما يتعرضون له من انتهاكات، خاصة مع ظروف النزوح وقلة موارد الدعم والمناخ القاسي في المناطق التي نزحوا إليها، يضاف إلى ذلك الارتباط الأكبر بين كبار السن وقراهم وبيوتهم التي لم يغادرها كثر منهم طيلة حياتهم، وامتزجت بذاكرتهم حتى باتت بحق جذورهم التي لا يستطيعون العيش بعيداً عنها، ناهيك عن الحساسية المفرطة للشعور بالعجز الذي يرافقهم خلال كل رحلة، تقول أم محمد معتمدة على دعاء دائم تردده “الله لا يتقل فينا أرض ولا يشمت فينا عبد”.
يترك الإحساس بالعجز هذا أثره السلبي في صفوف أبنائهم، يقولون إن تأمين مكان مقبول لآبائهم وأطفالهم هو كل ما يشغل بالهم، وهو ما يدخل في صلب خياراتهم وقراراتهم، يعيش بعضهم شعوراً كبيراً بالذنب لضيق الحال وانعدام فرص تأمين مأوى مجهز بأدنى الاحتياجات، وهو ما يدفعهم لتجنب النظر في وجوه آبائهم، أو الوقوف في وجه قرارهم بالبقاء الذي آثرته أم محمد، يقول أحد أبنائها الذي يعيش في تركيا إنه حاول تأمين منزل لخروجها من القرية ولكنه ومع غلاء الأسعار فشل في ذلك، تجيبنا والدته حتى لو فعل ما كنت لأخرج.
أعداد كبيرة من كبار السن النازحين يتمنون في كل يوم لو أنهم ما خرجوا من قراهم، يعيدون تلك الكلمات مراراً في كل يوم، وهو ما يخالف النظرة السائدة السابقة بأن المتقدمين في السن يظهرون حرصاً أكبر على الحياة من الشبان، يقول الطبيب النفسي أحمد الخالد إن الحرص على الحياة يقتضي في الوقت نفسه امتلاك القرار، فمعظم الوافدين بظروفهم الحالية يشعرون بـ “الإهانة” من جهة البحث عن لقمة العيش والمأوى حتى لو لم تكن موجودة، وإنما يقرؤونها ويلتقطونها من أحاديث الأبناء وقهرهم وحجم الضغوطات عليهم، يضاف إلى ذلك حالة العجز عن تقديم العون، خاصة وأن مركزية العائلة في الأرياف السورية تكون غالباً متمثلة بكبار السن، ناهيك عن الضياع الذي يشهده السكان بمجملهم عن شكل الأيام القادمة واستباحة الخصوصية في الخيام المتلاصقة والمرافق الجماعية.
لا يمكن مناقشة القرارات بقبول النزوح أو رفضه في مثل هذا الوقت، لكل خيار أسبابه ومبرراته، ففي الوقت الذي شاهدنا فيه عشرات كبار السن وهم يودعون بمشاهد مؤثرة منازلهم، آثر عدد منهم البقاء فيها أياً كانت الاحتمالات، تقول أم محمد إنها لن تغادر مكانها تاركة غصة في قلوب من يعرفها، وفي شعور مركون في العمق فرحاً بأمهات وآباء، ليس مبرراً، يعززون قيم الصمود والكرامة في نفوس أبنائهم.