نقطة الدفاع المدني التي استحدثت في بنش بريف إدلب كانت المحطة الجديدة التي وفد إليها متطوعو مركز الدفاع المدني في سراقب، حاملين معهم ذكرياتهم عن مدينتهم المحتلة وآلاف الصور المختزنة عن تفاصيل ما عاشوه خلال سنوات الثورة، عن حجارة تهدمت ورفاق فارقوا الحياة، وبين هذا وذاك لحظات من الفرح بإنقاذ شخص، يسترقون السمع لهمس نفسٍ قبل أن تبدأ أيديهم برفع الأنقاض علّهم يهبون الحياة لها من جديد، لتحفر في عقولهم مشاهد لا يمكن نسيانها أطّرت حياتهم اليومية ووسمتها بخوذهم البيضاء.
لم تكن صدفة أن يختار “ليث” مدير مركز سراقب للدفاع المدني تغيير حياته الهادئة بين رفوف الأدوية، التي عمل بها لتسعة عشر عاماً، ليصبح أحد الناشطين والمسعفين ثم المتطوعين في الدفاع المدني منذ بداية الحراك الثوري في مدينته سراقب، هي اللحظات التي يمكن أن تختارك بدل أن تفسح لك المكان لاختيارها، اللحظات التي تجد فيها حياتك محكومة بالجدوى كي تكمل طريقك دون أن تلتفت إلى الخلف، وتشكل ذلك اليقين الذي لا يمكن لأحد أو ظرف أن ينال منه، فالعنوان اليوم أن تكمل ثورتك والمهمة إنقاذ حياة.
بين فريق “الهواة” لكرة القدم وعمله في الصيدلية كان يقسم ليث العبد الله، وهو من مواليد ١٩٧٨، تفاصيل يومه، يتشارك مع عائلته محبة أبناء حيه ومدينته، لتدخل الثورة سراقب من أبوابها، وليصبح بعدها أحد الناشطين المدنيين في ركبها منذ نيسان ٢٠١١، يتظاهر مع الشبان ويوثق ما تقع عليه عينه.
يشكل السادس عشر من تشرين الثاني ٢٠١١ يوماً مفصلياً في حياة ليث “الزوج والأب لخمسة أطفال”، يومها كانت المظلات تتساقط من السماء نحو المدينة، لم يكن السكان قد ألفوا ما يحدث قبل أن يدوي صوت انفجار هائل في سراقب، كانت المرة الأولى التي تستهدف فيها سراقب بالصواريخ المظلية، منازل كثيرة سويت بالأرض، أصوات هائلة وكميات من الردم والشظايا غطت الحي الذي تسكنه عائلته، عند وصوله إلى المكان كانت معالم المنزل المهدم قد تغيرت وتحول إلى حجارة متناثرة، والداه يمشيان فوق الأنقاض طمعاً في النجاة، قبل أن يصرخ قلب أمه باسم شقيقه الوحيد الصغير محمد، ساعات أمضاها ليث وهو ينقل الركام باحثاً عن أخيه يحفر بيديه العاريتين، وعند وصوله إليه وقبل وصوله إلى المشفى كان على ليث أن يشهد موت شقيقه الذي يحتضنه.
قتل محمد وتحول الحي إلى ذاكرة، البيوت وملاعب الطفولة والمدرسة، وعلى بعد أمتار كان ليث ورفاقه يهيئون لإنشاء أول منظومة إسعافية في سراقب، أطلقوا عليها اسم “عماد الوطني”، وعماد الذي قتلته قوات الأسد لاحقاً كان أول المسعفين في سراقب، يصطلح الأهالي إطلاق لقب “شهيد الإنسانية” عليه، إذ وهب نفسه منذ اللحظة الأولى لإسعاف أبناء مدينته في شاحنة “السوزوكي” التي يملكها، يتنقل برغم ظروفه المادية السيئة بين الأحياء ويلاحق المصابين لينقلهم إلى المشافي بحب، في الطريق كان يحث الجميع على المضي قدماً في ثورتهم التي كان دائم التغني بها، هي ثورة ضد الظلم والقتل وهم أصحاب حق بالحياة، رمزية الاسم دفعت ليث ورفاقه للسير على خطاه.
انضم ليث إلى فريق الدفاع المدني منذ تأسيس مركزه الأول في سراقب بتاريخ ١/٩/٢٠١٤، ضمن الفريق الإعلامي، إلا أنه كان دائماً من أوائل المشاركين في عمليات الإنقاذ والإخلاء، سواء في سراقب أو القرى والبلدات المحيطة بها، وتلبية النداءات عند كل استهداف وقصف.
ليست المخاطر اليومية والتي قد تتسبب بالموت وحدها ما يذكره ليث، بل يملك ذاكرة من السرديات والقصص التي عاشها الفريق والسكان ترافقه طيلة حياته، إلا أن أقساها وأجملها ما حدث في بلدة تل مرديخ يوم استهدفت في التاسع من كانون الأول الماضي، كانت الطفلة إسلام حسن الهبرة عالقة تحت الأنقاض، صوت صراخها تطلب المساعدة كان يطغى على المكان، وكانت طائرات الاستطلاع تحوم فوق مكان الاستهداف ما يزيد احتمالية قصف المكان من جديد، لم يكن هنالك وقت للمناقشة، اختار ليث ومن معه البدء باستخراج الطفلة من تحت الأنقاض رغم كل شيء، على بعد أمتار من إسلام كانت والدتها تحت الأنقاض وفرق أخرى تحاول الحديث معها لتحديد مكانها، صوت الأم كان يصل إلى مسامع إسلام وليث الذي استطاع تحرير واحدة من قدميها، قبل أن تنقل الأجهزة اللاسلكية ضرورة الاحتماء من تنفيذ جديد للطيران في المكان ذاته، يتلفت ليث حوله لاتخاذ قرار مصيري بالبقاء، سقط الصاروخ على بعد عشرة أمتار، نجت إسلام ووالدها واثنان من أخوتها، وفقدت صوت أمها التي قتلت رفقة ستة من أبنائها إلى الأبد، يروي ليث أن “إنقاذ شخص على قيد الحياة من تحت الأنقاض، كان الدافع الأهم الذي يحملنا على الاستمرار”.
بقي ليث في سراقب حتى النهاية، يقوم ورفاقه بتأدية عملهم، يقول الأهالي إنه “ليثنا” ومصدر فخر وحياة لأبناء المدينة، كيفما التفتنا كنا نجده وفي أقسى الظروف وأحلكها، بثياب مغبرة ويدين مدميتين، يحاول إنقاذ ما يستطيع إنقاذه دون كلل أو تعب. يكمل ليث اليوم ما اختاره في مدينة أخرى بعد احتلال سراقب، ليبقى ورفاقه من الخوذ البيضاء أنموذجاً مضيئاً في الثورة السورية ورمزاً من رموزها.
محمود البكور