انتشرت صباح اليوم صوراً لما قيل إنه لعنصر من قوات النجباء العراقية يرفع علماً على مسجد العيس بريف حلب الجنوبي، على المسجد نفسه كانت صورة لقاسم سليماني أيضاً، ومنذ نحو سنتين تحولت مدينة الحاضر إلى مقر للميليشيات الإيرانية، كذلك سد شغيدلة ومعظم قرى الريف الجنوبي، لتخسر المعارضة السورية خلال الأيام الماضية ما تبقى منها، باستثناء جيب صغير يضم ناحية الزربة والبرقوم وإيكاردا.
ارتباطي بـ الزربة بدأ منذ بداية العام ٢٠٠٠، وقتها كانت الناحية التي يصب فيها سكان القرى المجاورة لشراء حاجياتهم وللعلاج أيضاً، كذلك للتوجه إلى مدينة حلب، كانت تضم مستوصفاً وثلاثة أطباء وصيدليتان، وشارع رئيسي تتوزع على طرفيه محلات تجارية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ومطعم يقدم الفول والحمص وبعض أنواع الصندويش، وفي كل يوم سبت “بازار” يعتبره السكان فرصة لهم لشراء حاجياتهم من باعة البسطات الجوالين، كل ذلك كان ينتهي في الساعة الثالثة عصراً، لتنغلق الناحية على نفسها من جديد، بعيداً عن خارطة الحياة والضجة، ويتحول شارعها الرئيسي إلى مكان شبه مهجور يخترق صمته صوت شاحنة أو دراجة نارية هنا أو هناك.
في الطريق بين سوق الناحية وأوتوستراد حلب تحتاج لأحلام يقظة طويلة وما تسعفك به الذاكرة من أغنيات لتمضية الوقت، وتحتاج أيضاً إلى كمامة تضعها على أنفك للتخفيف من رائحة مداجن الدجاج المنتشرة في المكان، الرائحة المؤذية التي ستعتادها بعد أيام من ارتياد المكان.
على الطريق الدولي ينتظر المتأخرون مثلي سيارة عابرة تقلهم إلى حلب، قد يطول الأمر لساعات قبل أن يتوقف أحد السرافيس الذي تخلى عن واحداً من ركابه في الطريق، أو واحداً من البولمانات القادمة من أريحا، غالباً ما يكون “الأمير” والذي فقد جزء من ركابه بعد المنافسة التي شهدتها المدينة بدخول بولمانات “البكري” وسيارات “آمنة”، ومؤخراً سيارات الشبح والتي يطلق عليها “البكري”.
حين يسعفك الحظ بالجلوس بجانب النافذة ترافقك أراض زراعية شاسعة، وأشجار حراجية غالباً ما تكون السرو قد مالت بفعل الرياح لتتناسق بعيداً عن رسم “المنظور” درس الرسم الوحيد الذي يجيد المدرسون تعليمه للطلبة، فالأمر لا يحتاج أكثر من نقطة في الأفق تتسع تدريجياً لتضم في منتصفها شارعاً وعلى طرفيه الأشجار التي يزيد حجمها كلما ابتعدنا عن النقطة الأولى.
كانت الزربة وقبلها الإيكاردا الممتدة على أراض ملونة بين الأحمر والأخضر والأصفر، تبعاً للمواسم التي يجري الباحثون الزراعيون دراساتهم عليها، تعني أن تهيئ نفسك للدخول إلى حلب أو الخروج منها في الاتجاهين، تعني أن تستيقظ من رحلتك الطويلة من دمشق، لتبدأ بـ “لملمة” أشيائك وترتيب شعرك، وتعني بالدرجة نفسها الاستسلام للنوم في رحلة الذهاب.
لم يخطر في بالي يوماً أن أبحث عن تسميتها بالزربة ولن أفعل اليوم، كل ما يدور في ذهني أن أتجاهل مصير الناحية وأبتعد بمخاوفي بعيداً عن سقوطها، الفكرة التي تسيطر علي أن بسقوطها سنخسر حلب مرة أخرى، ومعها سنفقد جزء آخر من ذاكرة المدينة لن نستطيع الوقوف عنده.
تخونني فكرة التسامح أو الأصح عدم الحقد على الذين سيرتادون الطريق من جديد، ويجهزون أنفسهم عند الزربة لدخول حلب أو الخروج منها وكأن شيئاً لم يكن، طرق لم تعرف الدماء والحرب، أشجار لم تقطع وتتحول إلى وقود للمدافئ في ظروف الحياة القاسية، فرح بحرية كانت قد ألقت بظلالها على طول الطريق الممتد حتى خان شيخون، حواجز كثيرة تحررت وأخرى نصبت، لافتات غيبت تفاصيلها الشمس والرصاص، والأهم من ذلك شهداء كثر قضوا لنعبر بحرية على الطريق.
ليست الطريق تلك هدفاً استراتيجياً سيمر من خلاله النهوض الاقتصادي كما يحلل الخبراء والكتاب، هي ليست أيضاً استعادة لطريق الحرير والتجارة، ذلك زمن مضى منذ قرون، بل هي إمعان في تحطيم ما تبقى من ذاكرتنا، لا مكان اليوم للطرق المستقيمة في الوصول إلى وجهتنا، علينا أن نلتف على الحياة نفسها كي ننزح من جديد، كذلك أن ننسى على أعتاب حلب ما حلمنا به يوماً، بعد أن باتت القرى التي لا يذكرها سوى أصحابها وبعض الحالمين ممن فرضت عليهم الحياة وجودهم فيها حديث الأخبار ووسائل الإعلام، لن يطول سوى أيام قبل أن تهمل من جديد.
الفارق الوحيد اليوم أن هذه القرى أخليت من سكانها المرتبطون بها، وهو ما سيحول حتى دون عودة شبه الحياة التي كانت تعيشها سابقاً، وتتحول إلى أراض خاوية سيفتقد المارة منها حتى رائحة المداجن.