في الثامن عشر من تشرين الثاني لعام ٢٠١٢ استشهد الشاب عبد القادر حمادي من قرية زردنا (شمال شرق مدينة إدلب)، وهو أول الشهداء الذين قدمتهم القرية خلال الثورة السورية، عمل كـ “مسعف” يحمل حقيبته الطبية في كل المعارك، كيفما التفت تجد “عبد القادر” يقول رفاقه وأبناء القرية، قبل أن يقضي في المعركة التي تمت فيها السيطرة على “الفوج ٤٦” والذي كان يوصف بـ “القلعة الحصينة” كونه مركز ثقل قوات الفرقة الرابعة، بعد حصار دام نحو شهرين.
لم يكن عبد القادر مقاتلاً، يقول من التقيناهم من أبناء القرية، كان مسعفاً وناشطاً في العمل الصحي في بلدته والأرياف المجاورة منذ منتصف عام ٢٠١١ وحتى يوم استشهاده، وهو من مواليد ١٩٨٨، كان يعمل في لبنان وقت اندلاع الثورة السورية، ليترك مكانه ويعود إلى بلدته كأحد المشاركين الأوائل في المظاهرات.
“شو جابك عالثورة” سألته لمعرفتي بوجوده في لبنان، يومها أخبرني أنه عاد مع بداية الثورة والتقى ببعض أقربائه من قرية سرجة بريف إدلب الذين استخدموا بيته كاستراحة في الطريق إلى تركيا لإحضار بعض الأدوية والمستلزمات الطبية وإسعاف الجرحى، رووا له فظائع ما يرتكب بحق أبناء البلد، فقرر عبد القادر أن لا يغيب صاحب البيت عن دوره ليلتحق بالعمل الطبي.
التحق عبد القادر بدورة في التمريض والإسعاف الأولي، يقول صديقه “زكي عروف” الناجي الوحيد حتى اللحظة من بين رفاق دربه الذين أسسوا النقطة الطبية الأولى في زردنا باسم “الرحمة”، كان من بينهم محدثنا وشهيدنا و (فؤاد عروف، عبد الله المحمد، محمود عروف) جميعهم استشهد تباعاً خلال تأديتهم لعملهم في إسعاف المصابين.
كـ “مكوك الحياكة” كان يتنقل بين أرياف إدلب وحلب، يسابق قدره نحو أماكن سقوط القذائف، يسعف المصابين وينظم حملات التبرع بالدم، ويرافق الفصائل في معاركهم من خان العسل وحتى وادي الضيف، يقول زكي مؤكداً آن عبد القادر لم ينتسب لأي فصيل، حجته الدائمة كانت تقوم على أنه نذر نفسه “للثورة” دون مسميات أو أجندات.
يقول بعض أبناء زردنا إنهم اعتادوا رؤيته حاملاً حقيبته الطبية المتواضعة، بعض الشاش والمعقمات ولصاقات قاطع النزيف وحقن الكزاز وبعض المعدات الإسعافية، يبحث عن أحد زملائه ليرافقه في رحلته على دراجة نارية نحو أكثر المناطق سخونة والتي كان يعرف بها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو الشريط الإخباري.
لا يملك عبد القادر هاتفاً جوالاً لتوثيق عمله، يقول زكي إن واحدة من الجهات التي كانت تمدهم بالمستحضرات الطبية تبرعت له بثمن هاتف لتوثيق ما يحدث أمامه من انتهاكات، ما زال زكي يحتفظ بهاتف عبد القادر كذكرى يصفها بـ “الثمينة” والتي اصطحبها معه خلال لجوئه إلى النمسا حالياً.
قصص كثيرة يرويها زكي عن عبد القادر وحرصه على إسعاف الجرحى، يصفه بـ “الأكثر شجاعة” من بين من التقاهم، وينهي حديثه بـ “كان عبدو ثورة وحده”.
يوم استشهاده
قبيل استشهاده بساعات توجه عبد القادر إلى أرض زراعية لواحد من أصدقائه، حمل بعض الحطب استعداداً للشتاء واستقبال مولوده الجديد، كانت زوجته في الأيام الأخيرة من حملها، ثم مرَ على “الحداد”، كان قد أوصاه بصنع مدفأة علي الحطب، لم تكن جاهزة يخبرنا إن عبد القادر غادره غاضباً وهو يقول “ما بعرف اذا رح أرجع اليوم وزوجتي على وجه ولادة”، تركه ليتجه بعدها إلى ريف المهندسين المجاور “للفوج ٤٦”.
شاهدت عبد القادر وقتها على قيد الحياة للمرة الأخيرة، كنت قد أصبت خلال تغطيتي كإعلامي للمعركة، توجه نحوي وهو يبتسم. قال لي “انت كمان تصاوبت يا محمد”، ضمد جرحي وأعطاني حقنة الكزاز وطلب إلى التوجه نحو مشفى الدانا مع الجرحى على عجل.
ليل ذلك اليوم وبعد خروجي من المشفى إلى المنزل كانت أخبار تحرير الفوج قد غطت الصفحات الإخبارية، لا يشوب تلك الفرحة سوى حزن دفين على استشهاد عبد القادر، القرية بأكملها اتجهت نحو الساحات لاستقبال جثمانه، كان شهيدنا الأول الذي فتح الباب لعشرات الشهداء بعده.
في منزله كان طفله الصغير الذي ولد بعد أيام من استشهاده يحمل اسم أبيه “عبد القادر” بينما حمل والده حقيبة ابنه ليعاهد الجميع على إكمال مسيرة عبد القادر في الثورة وتضميد الجراح.
محمد حمروش