مرَ أمامي مشهد البقاء كغريزة احتفظت بها منذ ثلاث سنوات دون إفراغها على الورق. الرجال الباحثون عن مكان يستر عجزهم أمام نسائهم اللاتي حملن ما وقعت عليه أيديهن كيفما اتفق، ليتركن مكاناً واسعاً لحلم أطفالهن من قسوة “كوانين الباردة” أجبرني على استحضار مشهد حاولت كثيراً ألا أعبث به، كنت أريده ميراثاً لوجع دائم سأورثه لأطفالي عندما تخونهم الذاكرة. الحقائب المغبرة وبقايا الأثاث المنزلي حظ النساء في اللجوء، أما الدموع فكانت رفاهية تنهمر دون إذن من أحد وتلتقطها يد افتقرت للدفء واستعاضت عنه بزيت الزيتون سمة النزوح الأخير ولونه.
قبل ست سنوات التقى القصف والنزوح ليكمل سيرة البرد والجوع خلال الرحلة التي عشتها ومن هُجر معي من القلمون الغربي، كانت المسافة إلى وادي بردى وجهتنا الجديدة تقاس بالزمن بعد أن أصبحت الجغرافيا لا تقاس بالشوارع بل بالحواجز، الزمن نصف ساعة والمسافة بعيدة جداً، بعيدة كحلم محمول في شاحنة هاربة، وخذلان يعتلي الوجوه السائرة بغير وجهة، والخيبات التي تنهار أمام برودة مفتاح البيت في جيب أم أبت إلا أن تغلق تفاصيلها أمام القادمين الجدد، كل ذلك الألم كان ينهار أمام كلمتين تحولتا إلى لازمة “يومين ومنرجع”.
حقول التفاح التي لم نستطع حملها معنا، ذلك أن الجذور لا تعيش بعيداً عن تربتها احتجت بطريقة أخرى، لم يعد يعنيها البقاء مع كل هذا الجراد الأسدي الذي اغتصب وجودها.
مياه عين الفيجة خففت حدة المرارة في حلوقنا، ثلاث سنوات قضيناها بجانبها، كان تفاح وادي بردى يستقبلنا هو الآخر، بتنا نعرف أصحابه وترابه، حفظنا الشوارع المؤدية إليه قبل أن نتركه وحيداً هذه المرة نحو الشمال السوري، النزوح تحول إلى تهجير، والحقيبة الصغيرة اتسعت، ومفاتيح المنازل سقطت مع مياه الفيجة، قلنا “نرميها ونستعير الأمنيات”.
البقاء هو ما كان يشغل سكان القرى الوادعة على كتف بردى، والتهجير أصبح منحة لا محنة لارتباطه بالنجاة، وجوه شاحبة ملأت الساحات، نساء اتشحن بالقهر يمسكن أيدي أطفالهن المرتجفة بقسوة كيلا تتوه في الزحام.
لا نهرب من الموت قالت واحدة من الأمهات اللاتي ما زالت عبارتها ترن في أذني كلما تشابهت الصور أو تطابقت، “الموت لا يخيفنا، هو شريك اعتدنا الحياة بقربه، ما يشغلنا حقاً هو النجاة”، وأشارت بيدها إلى طفلها الذي رجت له إكمال عقد الطفولة في بيت دافئ ومدرسة وألعاب، دون دم وصور أشلاء وقذائف.
لحظة وداع المنازل كانت قاسية على الجميع، أُنسنت الحجارة وعانقها أصحابها، ملؤوا ذاكرتهم بصور دمارها، تنفسوا رائحتها ثم لوحوا لها من بعيد.
في إدلب وجهة النازحين والمهجرين يتكرر المشهد دائماً، من نافذة منزلي كنت أشاهد أرتال السيارات تملأ الطرقات، تكدس الأطفال والنساء في صناديقها رفقة بعض الأثاث والحقائب، لا يمكن لشاحنة أن تنقل مدينة قلت في نفسي وأنا أراقب أنين الشاحنات تحت حمل الأمتعة، صوت آخر رافقني ليقول “كذلك قبور الشهداء لا يمكن نقلها، ولا رائحة الأسواق والشوارع”.
لست بحاجة إلى هاتفي الجوال لأعيش ما يحدث في منفانا الجديد، كل شيء كان واضحاً، كنت أستطيع قراءة حالة الذهول في وجه الرجال الهائمين في الطرقات بحثاً عن مأوى، وأفهم نظرة سيدة تجلس معاكسة وجهها لأمتعتها كي لا تمارس عادتها في تذكر التفاصيل، الأطفال الذين يحضنون بقايا ألعابهم ويغيبون تحت أغطية تقيهم برد الصناديق المفتوحة، على جوانب الشاحنات نسقت النساء أصص الزرع، قلت مرة أخرى في نفسي “لا تترك النساء أناقتهن”، يرافقني صوت آخر “كذلك البكاء رفيق دربهن”.
يعبث مشهد النزوح الجديد بذاكرتي/نا، لا يسمح لنا مجدداً بتأجيل الحزن، يريده كبيراً بحجم الألم والقهر ودعاء العجائز وشتائمهن، يريد لجرحنا أن يستمر بالنزف، ذلك أن العلاقة بين النسيان والتفاح لا يمكن أن تمرَ دون الوقوف على شجر الزيتون، عمر التفاح قصير قلت في نفسي وأنا أتخيل كيف يمكن للزيتون أن يحيا دون أصحابه حزيناً وليناً.
لم تكن آثار النزوح حكراً على الوافدين الجدد، في كل مرة كانت شاحنة تمر في شوارع المدينة كانت آلاف الصور والمشاهد تقفز في ذاكرتي/نا، للمنازل القديمة، البساتين التي يصعب اليوم استعادة مشهديتها، القبور التي ودعناها دون “فاتحة”، عناوين الأخبار المتصدرة على القنوات والتي تحمل أسماءنا وتجلدنا، ضحايانا الذين تحولوا إلى أرقام يصعب الوصول إلى أسمائها من جديد، الإحصائيات وقلق الأمم المتحدة، فرشات الإسفنج والأغطية والسلال الإغاثية والخيم والشوادر الزرقاء، الأوطان الجديدة المغموسة بالطين، والكاميرات التي تنتظر دموع طفل أو امرأة ببرودة الزاوية الصحفية، وحرارة من يريد للعالم أن يستفيق.
أفيق أنا الأخرى من وقوفي الطويل أمام النافذة، أقلب الصور ومقاطع الفيديو على هاتفي المحمول، يقتلني مشهد رجل يودع منزله “بخاطرك يا هالدار”، يقول الصوت الذي رافقني في غيابي أمام النافذة “تلك منحة أخرى من التذكر، لا نريد لجرحنا أن يندمل”.