تعيش فتيات سوريات كثيرات دور الأمومة في سن مبكرة، تحملن على عاتقهن رعاية أسرهم بعد فقدهن لأمهاتهن اللاتي قضين في الحرب والقصف، دون أن يتزوجن أو ينجبن، ليحملن وجع الفقدان ومسؤولية إخوتهم الصغار، ووفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان فإن نحو ثلاثة وعشرين ألف أسرة فقدت أمهاتها منذ بداية الثورة بفعل الحرب.
تجهز لينا في كل صباح فطور وثياب إخوتها قبل الذهاب للمدرسة، تسرح شعر أختها الصغيرة شذا (١٢ عاماً) بحب، في الوقت الذي ترتب لباس علاء وخالد (١٠ و٨ سنوات) وهي تسألهم عن طبق الغداء الذي يرغبون لتحضره لهم.
تقول لينا إنها اعتادت تحمل هذه المسؤولية منذ وفاة والدتها قبل سنتين بغارة جوية استهدفت منزلهم، تروي لنا أنها كانت في ساحة المدرسة وقتها رفقة صديقتها التي أرعبها صوت الطائرة الحربية ما أثار سخريتها، قبل أن تتفاجأ بوجود خالها الذي اصطحبها من المدرسة لتغادرها دون عودة، وتتحول إلى أم لأخوتها منذ ذلك الوقت.
لا تجف دموع لينا وهي تذكر تلك الحادثة، تخبرنا أن والدتها تركت طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها عامان عند وفاتها، “بانه” اسم الفتاة التي لم تعد تبارح حضن شقيقتها، خاصة بعد زواج والدها، تقول لينا إنها دائماً حائرة بين عنايتها بإخوتها وإرضاء زوجة والدها دائمة التذمر من إخوتها وضجيجهم.
حال لينا لا يختلف عن حال انتصار (١٧ عاماً) من قرية بسقلا بريف إدلب الجنوبي التي تولَت أمور المنزل بعد وفاة والديها بقصف على منزلهم، تقول إنها تعمل وأخيها الأكبر في قطاف الزيتون لسد نفقات المنزل، خاصة وأن والديها تركا لها ثلاثة أطفال صغار بحاجة للعناية الدائمة.
تعيش انتصار وعائلتها في مخيم أطمه، تقول إنها تشتكي من الوحدة والفقدان، وغالباً ما تنتابها نوبات من الحزن الشديد، وإنها تركت مقاعد الدراسة التي تحبها لتتفرغ لتربية إخوتها التي تحرص على تعليمهم وتلبية طلباتهم، وتتظاهر أمامهم بالقوة لتنسيهم مرارة ما فقدوه، يساعدها في ذلك سيدة تسكن في خيمة مجاورة لها، ولا تبخل عليها بالنصيحة والمشورة على حد قولها.
تعترف انتصار بالضعف أحياناً إلا أنها ترفض الاستسلام، تقول إنها ستربي أطفالها في المستقبل على ذلك أيضاً، ولا بدَ من التأقلم مع كافة الظروف، إذ لا تكاد تخلو خيمة في المخيم من قصة أليمة.
نائلة النجم المرشدة النفسية من مدينة خان شيخون تقول إنه ومن الطبيعي إن تشعر الفتيات في مثل هذا العمر بالحزن والوحدة مع فقدانهن لأمهاتهن، خاصة مع ما يبذلن من جهد في تقديم الحنان والرعاية لإخوتهن لتعويضهم عن الفراغ الذي خلفه موت أمهم، يرافق ذلك غياب السند المعنوي الذي تستند عليها الفتيات في هذا السن الخطر.
وتضيف النجم إن تخطي مرحلة الطفولة دون المرور بها يسبب غالباً نوعاً من العزلة والاكتئاب، لما لتلك المرحلة من أهمية في سلامة الصحة النفسية للطفل وبناء شخصيته، ناهيك عن ترك التعليم وهو ما يزيد من الأثر النفسي السلبي في حياة الفتيات اللواتي أصبحن فجأة أمهات.
ترى الأخصائية النفسية فاتن السويد إنه ثمت أثر إيجابي في تحمل الفتيات لهذا الدور بالأمومة، لما يتركه في نفوسهن من حالة الرضا على عملهن والخبرة التي يكتسبنها من تربية إخوتهم ما سيترك نتائجه الإيجابية على أطفالهم في المستقبل، إلَا أنه وفي الوقت نفسه يحرمهن من حقهن في التعلم واللعب ليزيد من ألمهن بمرارة خسارة حنان أمهاتهن.
تفرق الجمعيات الخيرية بين فاقدي الأب والأم، وتقتصر مساعدة فاقدي الأم على بعض النشاطات الترفيهية التي تقوم بها بعض المنظمات وتوزيع بعض الهدايا، بحسب فريد الخطيب (مسؤول التنسيق والعلاقات في المجلس المحلي بمدينة كفرنبل) الذي قال إنه لا توجد مساعدة محددة لأيتام الأم كما لفاقدي الأب الذي يعتبر معيلاً لأسرته.
تشترط لينا على خطيبها أخذ أختها الصغيرة (بانه) لتربيتها في منزلها الجديد، تقول إن الصغيرة متعلقة بها ولا تريد حرمانها من أمها مرتين، وهو ما وافق عليه “خطيبها” الذي همس لنا إنه أحب لينا لأنها على قدر عال من المسؤولية والحنان، وسيحاول تعويضها عما لحق بها من ألم ومعاناة.