فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

السوق في معرة النعمان قبل الهجمات الأخيرة

الكتابة خارج معرة النعمان

مصطفى أبو شمس

تظهر في الصور المتداولة من هناك وجوه أمهاتنا وهي تبكي عجزها، رجالها العاجزون وهم يودعون جدران بيوتهم، مشهد لأم تمشي رفقة زوجها إلى المجهول وبأقدام متعبة بعد أن عزَ وجود واسطة نقل، مسنة تغطي قهرها بغطاء لتدفئ قطة تحتضنها وهي تمسح دمعاً من الكبرياء في تجاعيد وجهها المتعب، جثة مردومة تحت الأنقاض بانتظار من يدفنها، توقف لقلب رجل يحسده الناس على موته، فهو لم يجرب حياة “الخيام والعراء”، شباب يلتقطون لأنفسهم صوراً فوق ما تبقى من ذاكرة المدينة، في الصورة تبدو وجوههم غائمة بعد أن فشلوا في رسم ابتسامة لصورة يحملونها معهم في رحلتهم الطويلة، وأطفال يسألون بـ “أمانة” أن يكون آباؤهم على قيد الحياة.

كلما حاولت الابتعاد عن كتابة مشهدية الموت في أرياف إدلب، تقفز الفيديوهات والصور أمامي، تشدني من أصابعي للكتابة على جدران المعرَة.

في منتصف ٢٠١٤ عادت بعض حياة إلى معرة النعمان، خاصة مع تحرير وادي الضيف الذي طال انتظاره. عبر الطريق الدولي الذي يمثل اليوم هدف المحللين السياسيين لاختصار أهداف النظام وروسيا بالسيطرة عليه، دخلت معرة النعمان لأعبر شوارعها وبيوتها المهدمة، وشبه الخالية من السكان، دكاكين قليلة مبعثرة هنا وهناك، يحاول العائدون إلى المدينة ترميمها، بعض أصحاب المحلات اكتفوا ببضعة “سحارات” من الفاكهة في دكاكينهم التي اقتلعت أبوابها دون إصلاحها، كنسُوا الردم والأنقاض وجلسوا ينتظرون حظهم في الرزق، آخرون وضعوا كرسياً داخل الدكان أو أمامه دون أي بضائع، لعلهم كانوا يريدون الاقتيات على الذاكرة.

في المشهد القديم توحي الفجوات التي أحدثتها الشظايا في المكان، باستراحة ما بعد الحرب، يمر الضوء من الثقوب وكأنك في مغاور قديمة، وعلى بعد شارعين كانت بسطات الخضار تشكل ما يشبه السوق القديم.

احتاجت المدينة لأشهر قليلة فقط لتعيد الدم إلى عروقها، في بداية العام ٢٠١٥ كان كل شيء فيها يوحي بالحياة، وكأنها نفضت عنها غبار الموت إلى غير رجعة، لا يخلو الأمر من مشاهد للدمار هنا وهناك، تجمعت فيها الأنقاض لتكمل اللوحة الناقصة، هنا شيء من موت، وهناك حياة بأكملها على بعد أمتار قليلة.

أذكر من خلال رحلاتي المكوكية إلى دمشق، والتي كنت أختار للوصول إليها “باصات الهوب هوب” لأمارس هوايتي بالتدخين كيف كانت المعرة حظ المسافر والمكان الذي يقصده الركاب لشراء “الأرمغان”، وهو لفظ يقابل الهدايا، فـ “اليد الفاضية مأنشحة” تقول أمي في كل مرة أدخل فيه وأنا أصفق بيدي الفارغتين، وكان الجواب الذي أختبئ خلفه دائماً “ما مرينا على المعرة”.

السوق في معرة النعمان قبل الهجمات الأخيرة
السوق في معرة النعمان قبل الهجمات الأخيرة

ليست المعرة حدثاً عادياً في حياة سكان حلب، هي امتداد حقيقي لعاداتهم في اللباس والطعام، وشبيهة لهم في السهر حتى الصباح والأسواق العامرة، ما كان ينقص حلب “قبراً لأبي العلاء”، أما ما ينقص المعرة أن تنقل قلعتها التي أهملت إلى ساحة المدينة، كان أهلها سيسارعون لفتح المقاهي حول محيطها الدائري فيبنون “الأريكة والخيزران والعطار”، ويحولون المكان إلى مقصد للقهوة وورق الشدة والنارجيلة.

في الطريق إلى المعرة ذاكرة للمتعبين المسافرين من قرى إدلب إلى لبنان، عمال يحملون في طريق عودتهم النقود التي ادخروها من عملهم لأشهر طويلة، وقبل تقبيل أطفالهم كان لا بد من زيارة المدينة الساهرة، لتمتلئ “البولمانات” بالفاكهة والشعيبيات.

في حلب كنا نجيب السائل عن وجهتنا بالقول “رايحين عالبلد”، كانت المعرة بلد “سكان إدلب” ووجهتهم، تمتد رقعتها في كل عام لتقضم ما حولها، لا أعرف أني زرت إدلب المدينة قبل ٢٠١٥، سوى مرات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولا أملك في طرقاتها أي ذاكرة للحديث عنها، كل ما أملكه عن المحافظة قريتي ومعرة النعمان.

ليس غريباً أن تنسب المدينة لفيلسوفها وشاعرها، بلد أبي العلاء، تلك أول الجمل التعريفية التي يقدمها الغريب في مدينة يشعر فيها بالسكينة، ويطرب أبناؤها بذلك الارتباط الذي غدا وثيقاً بين حجارة المدينة القديمة، وبيت صاحبهم الذي غدا مركزاً ثقافياً وداراً للكتب الوطنية.

عصية هذه المدينة على الغرباء، ولم تفلح محاولات من قصوا رأس صاحبها بالاستيلاء عليها، كانت اللافتات تنتهي عند مدخل المعرة، لتجد أعلام الثورة تزين الجدران، يضاف إليها عبارات أنسناها خلال سنوات الثورة.

تعيش معرة أبي العلاء اليوم أسوأ عصورها، تغيب الحياة عن شوارعها وأسواقها ومنازلها، هجرها جلَ أهلها بعد شهر من الموت الذي يعيشونه في كل دقيقة، آلاف الغارات الجوية والبراميل المتفجرة والقذائف “لم يتركوا حجراً على حجر” يقول من تبقى من السكان “إنها القيامة” في الوقت الذي يقبع داخل بيوتها آلاف من السكان العاجزين عن الرحيل، بعد أن “ضاقت عليهم الأرض بما رحبت”، وبات النزوح لا يشبه الموت بل يزيده ألماً ومعاناة.

تظهر في الصور المتداولة من هناك وجوه أمهاتنا وهي تبكي عجزها، رجالها العاجزون وهم يودعون جدران بيوتهم، مشهد لأم تمشي رفقة زوجها إلى المجهول وبأقدام متعبة بعد أن عزَ وجود واسطة نقل، مسنة تغطي قهرها بغطاء لتدفئ قطة تحتضنها وهي تمسح دمعاً من الكبرياء في تجاعيد وجهها المتعب، جثة مردومة تحت الأنقاض بانتظار من يدفنها، توقف لقلب رجل يحسده الناس على موته، فهو لم يجرب حياة “الخيام والعراء”، شباب يلتقطون لأنفسهم صوراً فوق ما تبقى من ذاكرة المدينة، في الصورة تبدو وجوههم غائمة بعد أن فشلوا في رسم ابتسامة لصورة يحملونها معهم في رحلتهم الطويلة، وأطفال يسألون بـ “أمانة” أن يكون آباؤهم على قيد الحياة.

عصية معرة النعمان عن الموت، ذلك ما أعرفه جيداً دون أن أستطيع تقديم تصور منطقي لما سيحدث، كل ما أعرفه من دلالة التاريخ أن هذه المدينة لا تحتمل الموت.