“نحنا فقيرين وما معنا حق أكل، مندور بالشوارع على العلب ومنبيعا لنجيب خبز للبيت”، عبارة سريعة قالها الطفل محمد حنتو قبل أن يدخل رفقة أخيه إلى سيارتنا التي توقفت بجانبه بعد إشارة بيده الصغيرة.
جسدان نحيلان وثياب متسخة وأكياس من المخلفات البلاستيكية والعلب المعدنية أخفت براءة الطفلين الباحثين عن قوت يوم بين أكوام القمامة وزوايا البيوت والشوارع على طريق حارم -رأس الحصن بريف إدلب، لمساعدة عائلاتهم تاركين خلفهم أحلام الأطفال في التعلم واللعب.
لم تنفع عبارات التشجيع التي أطلقناها التخفيف من حدة الموقف، حاولنا التستر خلف ما تسعفنا به الجمل لدعم نفسية الطفلين غير الآبهين بكلامنا، لفرحهم بتأمين سيارة توصلهم إلى وجهتهم الجديدة تريحهم من تعب المشي والأكياس التي يحملانها، يقطع أحمد الأخ الأكبر حديثنا ليرينا قطعة نقدية معدنية من فئة الخمس ليرات كان قد وجدها على قارعة الطريق، يخبرنا أنها لا تساوي شيئاً، ولكنه حملها معه فهي “نقود على أي حال” قبل أن يعود للصمت وإخفاء وجهه بين أكياسه.
كنا قد عدنا للتو من مهمة صحفية مؤجلة، بسبب اشتراط الحكومة الحصول على تصريح للعمل في المخيمات ونقل معاناة السكان هناك، وعند وصول الطفلين إلى وجهتهما قررنا أخذ الإذن منهما هذه المرة بالتصوير والحديث، اندفعا بطفولة ليأخذا وضعية التصوير بفرح وهما يرتبان بعض ما تبقى من ثيابهما، كان هذا التصريح الأهم الذي حصلنا عليه من الإنسانية بعيداً عن الحكومة وبيروقراطيتها الإدارية وتجاهلها للحياة التي يمثل أحمد ومحمد أحد أشكالها في المنطقة، دون مراعاة أو تدخل أو مساعدة من أحد.
يكفي أن تتجول في طرقات المحافظة لتجد مئات الأطفال الذين يمتهنون البحث عن مخلفات المواد البلاستيكية والمعدنية، يمضون معظم وقتهم بين أكوام القمامة في الظروف المناخية كافة، يتعرضون للأمراض والآفات والتحرش والاختطاف والتعنيف واستغلال التجار دون حماية أو تدخل من المؤسسات الحكومية أو المنظمات الإنسانية.
أجور زهيدة للصغار وأرباح طائلة للتجار
لهذه المهنة هيكلية تبدأ من الأطفال الصغار الذين يفرزون القمامة بحثاً عن مخلفات معدنية كـ “علب الكولا” وبلاستيكية، يبيعونها لتجار “صغار” جوالين، يطلق عليهم الأهالي (بائعو الخرضه) يتجولون بسيارات مخصصة لهذه المهنة تحمل مكبرات صوت تعلن عن وصولهم، ويشترون كل أنواع الخردوات المعدنية والبلاستيكية والخبز اليابس، بأسعار زهيدة، ثم يفرزونها حسب النوع ويبيعونها لتجار أكبر في مراكز شراء الخردوات المنتشرة في كل المناطق.
يقول سالم الحموي أحد اصحاب هذه السيارات، إنه يشتري “كيلو علب التنك” بسعر يتراوح بين (60 إلى 100 ليرة سورية)، حسب الكمية، وإنه يبيع الكيلو غرام الواحد بـ 200 ليرة سورية، مبرراً ذلك الفرق بالسعر بين الشراء والمبيع بكونه يتجول كثيراً، ويتكلف وقوداً لسيارته، ويحتاج إلى وقت طويل لجمع كميات مناسبة من هذه العلب الفارغة، يخبرنا أن تصريفها سهل جداً، فهناك ثلاثة مراكز للشراء في منطقته، ومثلها في باقي المناطق تأخذ كل الكميات الموجودة في السوق.
تقوم مراكز الخردوات بفرز أدق للمواد، وتجميع كل نوع منها بأكياس مخصصة، إذ تُعَبَأ العلب الفارغة فيها بأكياس ضخمة تسمى (حاوية العلب)، وتباع لتجار يقومون بدورهم ببيعها لمراكز الكبس والتصدير الضخمة.
يقول عبد الله السعيد صاحب أحد مراكز التجميع، إنهم يبيعون الكيلو الغرام الواحد من العلب للتجار
بـ 280 ليرة سورية، ينقلها التاجر للمراكز الكبرى، ويبيعها بسعر 300 ليرة سورية، وهناك تكبس العلب على شكل سبائك، وتصبح جاهزة للتصدير خارج البلاد، يتواجد من مراكز الكبس هذه عدد قليل في الشمال، أهمها مراكز إدلب ورام حمدان ومعر تمصرين ومركز الأتارب.
يقع العبء الأكبر في هذه التجارة “الهامة والمربحة”، بحسب التجار الذين التقيناهم، على الأطفال الذين يمثلون الطرف الأهم فيها، فهم من يقوم بجمع وفرز هذه المخلفات، بينما يقتصر دور باقي الأطراف على التجميع والنقل والتصدير، إلَا أن الأطفال هم الخاسر الأكبر أيضاً، إذ يتقاضون على عملهم الشاق والخطر أسعاراً لا تكفي لتأمين قوت يومهم، مقابل التجار الذين “يأكلون البيضة والتقشيرة”.
إحصائيات وآثار سلبية
ذكرت منظمة اليونيسيف بتقريرها في آب ٢٠١٩، أن ٤ من بين 5 أشخاص من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، مما يدفع بالأطفال إلى اتخاذ تدابير قصوى للبقاء على قيد الحياة، منها التوجه إلى عمالة الأطفال، وذلك لمساعدة أفراد عائلاتهم في سد الرمق.
وأشار التقرير إلى أن عدد الأطفال السوريين المحتاجين بلغ خمسة ملايين طفل، بينهم 360 ألف طفل في المناطق التي يصعب الوصول إليها، وأن حوالي 20 ألف طفلاً دون سن الخمس سنوات، يعانون من سوء التغذية الحاد والشديد.
تقول الاستشارية التربوية والأسرية نورا نحاس أن عمالة الأطفال غير مقبولة أيَاً كانت الظروف، خاصة وأن نسبتها تجاوزت في سوريا ٢٠٪ بحسب آخر الإحصائيات، وهو رقم لا يستهان به، خصوصاً وأن هذه الأعمال تفوق استطاعة الطفل البدنية، وتترك أثراً سلبياً على نفسية الطفل، ناهيك عن ما تسببه من تعرض الأطفال لمواقف وحوادث يومية خطرة على الصعيد النفسي والأخلاقي.
وترى النحاس “كان من الأجدر أن يكون الطلاب على مقاعد الدراسة، لتنمو عقولهم وتتوسع مداركهم، ويمارسوا الحياة بشكل سليم”، واعتبرت عمل الأطفال ليس له أي تبرير بأي شكل كان، وإن كان ثمة مخرج من هذه المشكلة، فسيكون بيد المنظمات، والمؤسسات الاجتماعية الداعمة، ولكن أغلب الدعم يهدر بشكل غير مدروس، وتبقى الطفولة حبيسة الألم.
ويقول الطبيب مصطفى شعبان إن الأطفال الذين يعملون في هذه المهنة معرضين للإصابة بأمراض كثيرة، نتيجة ما يتعرضون له خلال بحثهم في القمامة، خاصة التهاب الكبد C والأمراض السرطانية والأمراض الفيروسية.
ويحمل الطبيب المسؤولية للجهات والمنظمات التي تعنى بالأطفال، وكذلك للتجار الذين يستغلون تعب الأطفال ويبخسونهم حقهم مقابل الأرباح التي يحصلون عليها.
أطفال “الكولا” أو “أطفال العلب الفارغة” في الشمال السوري لا يعيرون بالاً لهذه الدراسات والمخاطر، ينتظرون أمام دكاكين السمانة وعلى الطرقات العامة من يرمي علبة فارغة يتسابقون عليها، همهم تأمين بعض حياة لعائلاتهم التي أنهكها الجوع والتعب.