تنشط زراعة النباتات العطرية في الشمال السوري خلال السنوات الثلاث الماضية، كـ “الكمون واليانسون والحبة السوداء والكزبرة..”، ساهم في ذلك ارتفاع أسعارها بعد السماح بتصديرها عبر المعابر الحدودية، كذلك قلة حاجتها للمياه واعتمادها على مياه الأمطار، ناهيك عن ضعف تسويق المحاصيل الرئيسية في المنطقة كالقمح والشعير وخسارة الأراضي المزروعة بتلك الأصناف ما دفع المزارعين إلى التوقف عن زراعتها وتعويضها بأخرى ذات جدوى اقتصادية مرتفعة.
زيادة المساحات المزروعة بالنباتات العطرية
يقدّر المهندس عبد الرزاق طالب (مدير دائرة الزراعة في الزربة بريف حلب الجنوبي) حجم الزيادة بالمساحات المزروعة بالنباتات العطرية في ريف حلب الجنوبي بـ 20%، بينما وصلت حجم المساحات المزروعة بها في إدلب إلى 15 ألف هكتار بالنباتات العطرية و26 ألف هكتار للبقوليات (في العام 2012 بلغت 12 ألف هكتار)، بحسب مدير الإرشاد الزراعي السابق في محافظة إدلب المهندس عمر البدوي.
ويشهد العام الحالي توجهاً أكبر نحو هذه الزراعات يقدره المهندس محمد الموسى بنسبة تفوق 30% من مساحة الأراضي المزروعة وذلك لأسباب كثيرة أهمها تراجع المساحات المروية وانخفاض أسعار المحاصيل النجيلية (القمح والشعير)، وفتح باب التصدير لهذه المنتجات ما أدى إلى ارتفاع أسعارها.
ويقول المهندس الموسى إن مزارعي المنطقة سابقاً، كانوا يزرعون بعض “الدونمات” من النباتات العطرية تكفي للسوق المحلية كمؤن للمنازل، إلّا أنه ومنذ العام 2010 شهدت هذه الزراعة تطوراً ملحوظاً لجدواها الاقتصادية والطلب العالمي عليها.
المزارعون يؤكدون
المزارع عبد الستار محمد ديب حلاق (من قرية الجينة) قال إنه بدلاً من زراعة القمح والشعير هذا العام سيقوم بزراعة الكمون والحبة سوداء، كونها محاصيل ذات سعر مبيع جيد في السوق، حاله كحال عدد من مزارعي المنطقة. يقول عمر شحادة (مساعد مهندس ورئيس المكتب الزراعي في الأتارب) إن تغيرات السوق بما يخص أسعار المحاصيل الزراعية دفعت المزارعين لتتبع هذه الأسعار وزراعة المواد التي وصفها بـ “مرتفعة الأثمان في العام السابق”.
وبتتبع الأسعار، من قبل فريق فوكس حلب، وجدنا أن مبيع الطن الواحد من الكمون وصل في العام الحالي إلى 2400 دولاراً، والحبة السوداء 1000 دولار، والكزبرة 750 دولار واليانسون 2000 دولار، مقارنة بطن القمح الذي لم تتجاوز أسعاره حاجز الـ 200 دولار في أفضل الأحوال.
الحاج مصطفى الإسماعيل من ريف إدلب يقول إن كلفة الهكتار الواحد من الكمون لا تتجاوز 400 دولاراً، في حين يبلغ متوسط الإنتاج ما بين طن وطن ونصف للهكتار، وهو ما يعني دخلاً جيداً للمزارع مقارنة بأصناف أخرى، ما دفعه لزراعة خمسة هكتارات يملكها بالنباتات العطرية، بالتحديد الكمون واليانسون.
المزارع علي الأحمد من الزربة قال إن الدورة الزراعية التي تحتاجها الأرض تفرض التنويع بالمحاصيل المزروعة، وهو ما يؤدي إلى زيادة نسبة زراعة النباتات العطرية في عام من الأعوام عن سابقه، محدداً الفارق الموسمي في الزراعة بثلاث سنوات (تزرع الأرض بالقمح ثم الكمون ثم الشعير لتعود إلى القمح على سبيل المثال).
المهندس الطالب يقول إن هذه الزيادة تتعلق بازدياد الطلب العالمي على النباتات العطرية، وبيعها بـ “الدولار” ما يضمن ربح المزارع، كذلك قلة تكاليف الإنتاج وعدم حاجتها للمياه (معظمها زراعات بعلية بنحو 90%)، مقللاً من دورها في الأمن الغذائي، إذ تستخدم كتوابل للأطعمة مع غياب المعامل الطبية في المنطقة التي تعتمد على هذه المحاصيل، وهو ما يؤدي إلى تصدير معظم الإنتاج السنوي.
مخاطر على التربة الزراعية
يكمن الخطر الأهم لزراعة النباتات العطرية في انخفاض الإنتاج السنوي بعد تكرار زراعتها لمواسم متتالية، وذلك لما يسببه هذا التكرار من أمراض للنباتات كـ “الشلل والذبول“، بحسب المهندس البدوي.
ويقصد بالزراعة المتكررة “تكرار زراعة محصول معين في نفس الحقل عاماً بعد آخر أو زراعة المحصول في نفس المكان”، وتؤدي إلى استنزاف المادة العضوية من التربة ما يقلل من خصوبتها، واستنزاف عنصر هام أو مجموعة من العناصر بصفة مستمرة من الأرض ما يؤدي إلى ضعف التربة إن لم يتم تعويضها، كذلك يؤدي عدم مرور التربة خلال الدورة الزراعية بمحصول بقولي إلى فقرها بعنصر الآزوت، وازدياد الأمراض كتعفن الجذور وانتشار الحشرات والحشائش، والإخلال بالتوازن البيولوجي في الأرض نتيجة عدم تنوع المحاصيل وكـذلك بمحتوى الأرض من العناصر الثانوية والعناصر الدقيقة، بحسب المهندس الموسى.
المهندس مجد حاج عمر وصف زراعة النباتات العطرية في المنطقة بـ “غير الناجحة”، إذ تعرض قسم كبير منها للأمراض (الذبول والبياض الدقيقي والشلل..)، إلّا أن أسعارها المرتفعة شجعت المزارعين على زراعتها في الأعوام السابقة، ويرى أن المزارعين سيعودون إلى زراعة القمح والبقوليات نتيجة عدم نجاح زراعة النباتات العطرية والأضرار التي طالت التربة، مؤكداً على خسارة المزارعين إن لم يتبعوا الدورة الزراعية، لضعف الإنتاج المرجو وكثرة الأمراض.
سوق سوداء
تباع النباتات العطرية للتجار وفق قانون “العرض والطلب”، يقول المهندس علي الناجي، ويتحكم التجار بأسعارها وفقاً للأسعار العالمية والكميات المطلوبة للتصدير، وهو ما يفسر تذبذب أسعارها في الأسواق.
ويرى شحادة إن توجه المزارعين لزراعة النباتات العطرية سيؤدي إلى انخفاض سعرها في الأسواق مع ازدياد كميات الإنتاج، وهو ما سيتسبب بخسارة المزارع على المدى المتوسط والطويل سواء من الناحية الاقتصادية أو الأضرار في التربة.
التاجر سعيد المصطفى من أريحا يقول إن الكميات المطلوبة من هذه النباتات تختلف بين عام وآخر، وتصدر معظمها إلى تركيا والعراق، بعضها يمر عبر مناطق النظام، مؤكداً أن تجار الجملة يوكلون المهمة إلى تجار المنطقة بشراء الكميات اللازمة وفق أسعار محددة، وتختلف هذه الأسعار في كل عام، مؤكداً أن الكميات المطلوبة كبيرة وتكفي لاستيعاب كل إنتاج المزارعين.
ويربط المصطفى التصريف بالمعابر، ففي حال تم إغلاق باب التصدير ستكون الخسارة كبيرة، وهو ما يسعى التجار للتأكد منه قبل شراء المحاصيل من المزارعين تجنباً للخسارة، ويعتبر أن ما يحصل عليه المزارع من سعر “منصف”، وهو يزيد عن الكلفة بخمسة أضعاف على الأقل في بعض المحاصيل وبضعفين في محاصيل أخرى.
المزارع علي الأحمد يقول إنه يلتزم بالدورة الزراعية، ويقسم المساحة التي يمتلكها بين أنواع عديدة من المحاصيل، ليضمن بقاء جزء من النباتات العطرية في مواسمه لتعويض خسارة باقي المحاصيل، وتأمين لقمة العيش، في حين يتجه بعض المزارعين للزراعة المتكررة دون توجيه أو إرشاد من المؤسسات الزراعية، أو دعم للزراعات التي يصفها المزارعون بـ “الخاسرة”، في ظل الظروف الحياتية القاسية التي يعيشونها.