-ستة شهداء بينهم أربع نساء وطفل، وثلاثة جرحى بينهم طفلة، نتيجة قصف الطيران الروسي لقرية الملاجة بريف إدلب الجنوبي. كما سقط جريحان مدنيان في مدينة كفرنبل جراء قصف ببراميل الموت من الطائرات الحوامة.
-وفي خبر سابق استشهد طفلان ووالدتهم في بلدة معرت حرمة، بقصف للطائرات الحربية الروسية.
هذا جزء من أخبار الشمال السوري اليومية، بتنا نسمعها ونقرؤها بشكل شبه اعتيادي، فالقرى تستهدف بصورة مستمرة، والضحايا من المدنيين يسقطون بما يشبه الأمر الروتيني، دون أن يلتفت لذلك أحد ما.
لأكون صريحاً حتى أنا لم يعد يستوقفني عدد أو جنس الضحايا، فنحن منذ مدة ننام على خبر مجزرة لنصحو على وقع أخرى، والمستهدف دائماً هم نحن.
ما استرعى انتباهي حقاً هو تواجد مدنيين في بلدات مستهدفة أصلاً، وتحت النار منذ أشهر خمسة خلت وما زالت. فما الذي دفع بهؤلاء للبقاء أو التواجد في بلداتهم، رغم نزوح القسم الأعظم من سكانها.
سؤال طرحته بادئ الأمر على نفسي، وحاولت سبر الواقع حولي علني أحظى بإجابة ما، لأكتشف خلال رحلة بحثي، أن المواطن في المناطق المحررة هو الغائب الحاضر في كل ما حدث ويحدث اليوم وفي الأمس. هو لا يعرف لماذا أعلنت الهدنة سابقاً وتوقف القتال، كما لم يخبره أحد عندما استؤنف العمل العسكري، ولا حتى الهدف من وراء هذا الهجوم العسكري على الشمال السوري، ولا أين تقع حدوده.
فسمحت لنفسي أن أطلق على هذا الواقع تسمية (الضبابية الإعلامية). فمع تزاحم الأخبار الواردة من هنا وهناك، ومع تضارب الأنباء والمصادر، كثرت التحليلات والتأويلات، وانقسم الناس على إثرها فرقاً كل يرى الأمور من زاويته هو، ويبني على أساس هذه الرؤيا خطته للأيام القادمة، ويحدد من خلالها خياراته، التي تشمل أفراد عائلته أيضاً. فمنهم من فضل البقاء على النزوح ومنهم من اختار النزوح والابتعاد قدر الإمكان عن البلدات التي استهدفت، وقسم ثالث جرب النزوح لفترة ثم عاد لمسقط راسه.
ناصر أبو محمد يرى أن الحملة اليوم تشابه مثيلاتها في السابق، وما تشهده كفرنبل من قصف مر عليها مراراً، وهو يثق بقدرة الفصائل المسلحة على صد تقدم قوات النظام براً، وعليه اختار البقاء في منزله، ولم يغادره إلى مكان آخر، لكنه لا يلوم من غادر فالقصف حسب تعبيره “ما ترك هالمرة لا شجر ولا حجر”.
الحاج علي الأمين، ما منعه أن يختار النزوح، عدم وجود منطقة آمنة معلومة، فكل المناطق في الشمال يمكن استهدافها والطيران كما يقول “يده طويلة ولا أحد يستطيع منعه”.
بسبب عدم تحديد جغرافيا المنطقة الآمنة التي كثر الحديث عنها، فضل الحاج علي البقاء في بلدته على تجربة مرارة النزوح دون ضمانة لعدم وصول القصف للمكان الجديد، وتراه يردد عبارة “الأمان بالله وحده”.
أحمد البيوش نازح إلى مدينة سلقين في الشمال، مقتنع بأن ما يجري على الأرض هو تطبيق لمقررات سوتشي وهدفه تمكين النظام وحلفائه الوصول إلى الاوتوسترادات الرئيسة التي تمر بالمحافظة، لهذا اختار أن ينزح شمال هذا الخط، وهو يرفض كل ما يتم إعلانه من تهدئة أو أن النظام اكتفى بما أحرزه من تقدم على الأرض. “الكل متفق علينا، وإلا لكانوا وضعونا بصورة ما يجري حقاً”.
غسان السويد ترك منزله في كفرنبل، قاصداً بلدات الشمال، بعد أن سمع أنباء تفيد بعزم النظام التقدم واحتلال قرى وبلدات الريف الجنوبي، لكنه بعد أن جرب معاناة النزوح خلال أشهر ثلاثة متواصلة، ومع تزايد التكاليف المادية والضغوطات اليومية عليه، فضل خيار العودة إلى مدينته مع ورود أول تسريب لوقف مزعوم لإطلاق النار، محاولاً إقناع نفسه ومن حوله، بصحة الخبر، فحمل متاعه في صباح أحد الأيام عائداً إلى مسقط رأسه. يصف أيام النزوح قائلا: “يوم نزوح واحد يعادل عام، والبقاء تحت القصف أهون من البقاء بلا مورد”.
سُربت أنباء تقول بوقف شامل لإطلاق النار، لكن لم يتم نسبته إلى “مصدر موثوق” ولم يصدر أي تصريح لجهة مسؤولة من كلا الطرفين تدعم صحة هذا الخبر، بل اكتفى ناقل الخبر بنسبته إلى مصدر مطلع رفض ذكر اسمه. بالرغم من هذا سعى البعض لتصديقه وقرروا تحويل الوقف لهدنة ليبرروا لأنفسهم قرار العودة هرباً من واقع النزوح الذي لم يألفوه.
جهاد، مدرس اللغة، والمتابع النهم للقنوات الإخبارية، ما إن تلقف خبر الوقف المزعوم حتى حزم أغراضه في اليوم التالي ليرجع إلى مدينته، ليكتشف مع وصوله كذب الخبر وأن القصف مازال مستمراً وإن خفت وتيرته، يتساءل بعدها “هل هي فرحتي بخبر طال انتظاره؟ أم أنه عقلي الباطني من جعلني أحول الوقف لهدنة تامة، لست واثقاً بالمطلق”.
علاء الشيخ، صاحب مطعم لبيع الفلافل، يستغرب كيف صدق الناس خبر الهدنة، فهو أيضا يتابع الأخبار ولم يجد ما يدل على هدنة لا معلنة ولا مخفية. “كل الناس أصبحوا محللين وسياسيين، ولو جلست بمطعمي نصف ساعة لسمعت أخباراً متضاربة من ذات الشخص أحياناً”.
الضبابية وعدم وضوح الرؤية لمجريات الأحداث، ليست وليدة الفترة الحالية، ولم تقتصر على إدلب وحدها، فمنذ أن سقطت مدينة حلب بيد النظام ضمن ما سمي آنذاك بالتسوية، ورآه البعض تسليماً أو بيعاً، كان المواطن مغيباً عما يحاك له في الخفاء، ليتفاجأ بتنفيذ قرارات لم يتم حتى إنذاره مسبقا بلها.
أم عبدو في الخامسة والستين، تصف كيف نزحت وأسرتها بالكامل، من إحدى قرى جزرايا بريف حلب الجنوبي، نتيجة تقدم قوات النظام نحو قريتهم، بعد تطمينات من قيادات الفصائل لهم بأن النظام سيظل على مسافة أكثر من عشرة كيلومترات، لكنهم فوجئوا بجيش النظام يرابط صباح اليوم التالي على مشارف القرية، ففروا هاربين خوفاً من اقتحام القرية والتنكيل بأهلها، تاركين خلفهم متاعهم وأغلبه من “النفيس والغالي” كما تصفه أم عبدو، وقصدوا بلدة أطمه في الشمال لتكون موطناً جديداً لهم، ومنذ ذلك الحين تلوم أم عبدو الفصائل ليس على تسليم القرية، ولكن “أقله كانوا يعطونا خبر قبل بيومين”.
حتى غوطة دمشق لم تكن بأحسن حالاً من أخواتها إدلب وحلب، فالمواطن فيها عايش ذات الوضع في السابق، محمد الغربي من سكان بلدة حموريه سابقاً، همّ بالخروج من الغوطة أكثر من مرة لكن ما دفعه للبقاء، هي التطمينات والتصريحات التي كان يسمعها من قيادات الثورة هناك، بقرب حل ما يلوح بالأفق، وأن القضية مسالة أيام معدودة، وبالفعل كانت أياماً تفصله عن الصعود إلى الباص الأخضر، ليجد نفسه ضمن آلاف المهجرين إلى الشمال السوري، حتى بعد أن استوطن في بلدات الشمال، أحس بأن الحال لا يختلف كثيراً عما عايشه في الغوطة، لهذا قرر متابعة الهجرة باختياره هذه المرة، وعبر الحدود السورية باتجاه الأراضي التركية رفقة أسرته، ليستقر به المقام في اسطنبول حيث يعمل في أحد المطاعم هناك.
يسير المواطن السوري نحو المجهول، وعدم اتضاح معالم الغد، ليظل مترقباً ما يحمله ذاك الغد في طياته، من أحداث وتفصيلات سيبني على أساسها قناعاته ويتخذ على إثرها قرارته، وهو يمني النفس بأن لا يندم عليها فيما بعد.