بحلول العام 2025 سيعيش نصف سكان العالم في مناطق تعاني من نقص المياه، إضافة لتلوث المياه الجوفية وازدياد الأمراض الناتجة عنها، وأهمها الإسهالات التي تقتل سنوياً أكثر من ثمانمائة واثنين وأربعين ألف شخص، معظمهم من الأطفال في العالم، والتيفوئيد والكوليرا..، بحسب تقرير للأمم المتحدة.
وتشكل المياه الجوفية 98% من مجموع المياه العذبة في العالم، يظهر منها إلى السطح 0.6% على الكرة الأرضية، تعتمد في مصادرها على مياه الأمطار التي يتبخر في سوريا ما يزيد عن 80% منها أو يرشح إلى الطبقات الداخلية والمياه المعدنية وماء الصهير والماء المقرون، ما يؤدي إلى انخفاض كمية الوارد من المياه الجوفية بنحو 5025 مليون متر مكعب.
سنركز في هذا التقرير على الآبار الجوفية في منطقة إدلب، وستشمل تأثير الحفر الجائر والآبار الارتوازية والعوامل المناخية على حوض نهر العاصي (المغذي الرئيسي للمنطقة)، وعلى الأمن المائي للسكان فيها، إضافة إلى أهم الأمراض وأسباب التلوث، وغياب الرقابة الحكومية.
الحفر الجائر يسبب انخفاضاً في مياه حوض العاصي
تصنف الأراضي السورية على أنها أراض جافة أو شبه جافة بنسبة 60% منها، وتعتمد 89% من أراضيها على الزراعة المروية من المياه السطحية أو الآبار، كما تلوح في الأفق أزمة مائية خانقة بسبب الحرب وعدم التوازن بين مصادر المياه والاستهلاك، وتباين نوع مصادر المياه جغرافياً، إذ يقدر العجز المائي بـ (18.8-40) مليار م³ سنوياً.
ويشكل الحفر الجائر أحد أهم الأسباب في العجز المائي القادم وذلك بعد تراجع المياه في حوض العاصي بنسبة 11.7 م³/ثا خلال الأعوام الماضية (متوسط التدفق 25.8 م³/ثا في العام 2010، 14.1 م³/ثا حالياً) إذ كانت المياه الجوفية ترفد الحوض بـ 1339مليون م³، قبل ازدياد عدد الآبار الجوفية والتغيرات المناخية، إذ بلغت عدد الآبار في المنطقة سبعة عشر ألف بئر منها ثمانية آلاف غير مرخصة. وكانت تبلغ 3158 بئراً غير مرخص و8933 مرخصاً قبل العام 2014.
الآبار الجوفية حلّ لتأمين مياه الشرب والري بعد توقف الشبكات الرئيسية
مع توقف إمدادات مياه الشرب على منطقة إدلب والخاضعة للمعارضة السورية بعد قطعها من قبل قوات النظام، سواء تلك القادمة من حوض نهر العاصي أو من مدينة حلب، كذلك توقف مشاريع الضخ المائي للأراضي الزراعية في الحوضين السابقين كان لا بد من اجتراح حلول جديدة لتعويض النقص المائي الحاصل، ما دفع السكان للجوء إلى حفر الآبار الجوفية، وبشكل عشوائي، لتلبية جزء يسير من احتياجاتهم المائية.
وتنقسم تلك الآبار بحسب عمقها إلى “سطحية” تتفاوت أعماقها بين 5 أمتار في سهل الغاب و150 متراَ في المناطق الشمالية من إدلب، بحسب المهندس عبد الخالق الشيخ (مهندس مياه كان مسؤولاً عن إنتاج مئة بئر في المنطقة خلال عمله في مؤسسة المياه)، والذي أوضح
أن المياه السطحية تكون عادة بين طبقتين صخريتين كتيمتين على شكل أحواض مائية أو أنهار جارية لذا فإن كمياتها محدودة وغزارتها أقل من الآبار الارتوازية التي تكون أعمق بكثير من الآبار السطحية وتبدأ بـ 250 متر إلى 700 متر.
خلال السنوات الماضية ازدادت نسبة حفر الآبار بشكل كبير نتيجة حاجة الناس الملحة لتأمين مصادر بديلة عن المضخات الرئيسية التي تعطلت، فارتفع عدد الآبار الموجود بعشوائية (كسرت قوانين الموارد المائية) الأمر الذي سيشكل خطراً في المستقبل على الأحواض المائية الموجودة في المنطقة التي تقع أصلاً ضمن خط الفقر المائي ” حيث صنفت وكالات الأمم المتحدة سوريا منذ العام 2013 من بين الدول التي تعاني العجز المائي، وذلك بسبب انخفاض حصة الفرد من الواردات المائية فيها إلى ما دون 1000 م³ في السنة ” بحسب ما أورد موقع الجمهورية في إحدى دراساته.
قرارات تنظيمية لحفر الآبار وتجاوب ضعيف من المواطنين
يتجاوز عدد الآبار الجوفية المرخصة في إدلب وحدها 4500 بئر تساهم بري أكثر من 40 ألف هكتار، إضافة للآبار العشوائية التي تم حفرها خلال سنوات الثورة، والتي ستشكل لب المشكلة الحقيقة لأنها حفرت دون مراعاة للضوابط القانونية بحسب “المهندس عبد الخالق الشيخ” والذي يرى أن غياب القوانين الملزمة أدى لحدوث تجاوزات كبيرة على الأحواض المائية المغذية للمنطقة مما سيحرم الأجيال القادمة من حقها الطبيعي من المياه، حيث عملت مديرية الموارد المائية مؤخراً على إصدار قرار يطالب بإجراء تراخيص محددة قبل البدء بعملية الحفر بالإضافة لإشراف مديرية الموارد المائية على الحفر، حيث يتم منح التراخيص لكافة الاستعمالات في الوقت الحالي، لكن تم التشديد على مسألة القرب من الآبار العامة والتي تضخ مياهها للناس بشكل مباشر، إذ يجب ترك مسافة أمان للبئر على مساحة دائرة نصف قطرها 1 كم.
يضيف “الشيخ”: كان تجاوب المواطنين ضعيفاً مع القرار بداية الأمر، لكن الضغوط التي نفذتها الشرطة الحرة مؤخراً بناء على التعميم الذي أصدرته المديرية دفع الناس للتجاوب مع القرار وبدأت الناس بمراجعتنا بهدف ترخيص آبارهم. إذ تم حتى اليوم منح 50 رخصة حفر وقرابة 12 رخصة تركيب جهاز نضح وتسجيل 14 حفارة. وتتفاوت كلفة الترخيص على المواطن ما بين 30 -40 ألف ليرة سورية متضمنة أجور الكشف الحسي وبيان القيد العقاري.
تسعى مديرية الموارد المائية لتحقيق بعض المكاسب لأصحاب الآبار التي تم ترخيصها حيث تعمل على تأمين محروقات بأسعار مخفضة بالإضافة لأحقيتهم باستلام الدعم المقدم من المنظمات الزراعية، في خطوة يعتبرها القائمون على العمل تشجيعاً للمواطنين على ترخيص الآبار.
تستعمل تلك الآبار بنسب كبيرة في ري الأراضي الزراعية في أغلب مناطق إدلب وريفي حلب الغربي والجنوبي بسبب غياب المسطحات المائية وأقنية الري في حين بدأ الاعتماد عليها بشكل متأخر في سهل الغاب نتيجة توقف أقنية الري.
تشكل الآبار التي حفرت حديثاً مورداً مهما لمياه الشرب مما يحتم على الجهات المعنية تكثيف الجهود في مراقبة تلك المياه وتحليلها بشكل دوري، لاسيما أن الكثير منها حفر ضمن شروط بيئية سيئة، يضيف الشيخ “تختلف تكلفة حفر البئر من منطقة لأخرى بحسب عمق البئر ونوعية الصخور المتواجدة في المنطقة بحيث تتراوح تلك التكلفة ما بين 1500 إلى 5000 ليرة سورية للمتر الواحد، مما شجع البعض على حفر الآبار بهدف استخراج المياه وبيعها للمواطنين بشكل مباشر أو عبر سيارات نقل المياه (يتراوح سعر الصهريج بين 2000-4000 ليرة سورية) متغافلين عن حجم الكارثة المترتبة عن هذا الأمر في المستقبل”.
مياه ملوثة في الآبار الجوفية والصرف الصحي أهم أسبابها
وعن خطر العشوائية المتبعة في حفر الآبار يقول المهندس الكيميائي أحمد درويش العامل في شبكة الإنذار المبكر للاستجابة للأوبئة “إن حفر الآبار بشكل عشوائي بدون دراسة طبغرافية الأرض وموقع البئر يعرضه لخطر التلوث الحيواني أو البشري أو الصناعي ويهدر المخزون المائي ويهدد أمنه”.
يتابع “الدرويش” إن الخطر الأكبر يكمن عند قيام البعض بتحويل مياه الصرف الصحي إلى أحد الآبار السطحية أو الجوفية التي فشل في استخراج المياه منها، مما يهدد نوعية المياه وجودتها وينقل الكثير من الأمراض المحمولة في المياه”.
وعن آلية تشكل المياه تحت سطح الأرض يقول “الدرويش” تتواجد المياه تحت سطح الأرض ضمن أحواض متصلة أو منفصلة بشكل عشوائي، لذا يساهم الحفر العشوائي في جفاف الحوض أو انخفاض مستوى المياه فيه ويحرم المستفيدين منه. حيث تتجمع تلك المياه ضمن طبقات الأرض نتيجة رشح مياه الأمطار إلى باطن الأرض، بالإضافة لتسرب المياه السطحية بحيث يخضع الحوض لقوانين الدخل والخرج المائي”.
يجري الفريق الذي يعمل به الدرويش مجموعة من الاختبارات الدورية على الآبار العامة التي يشرفون عليها، ومن أهم الاختبارات التي يمكن أن يقومون بها ” الاختبارات الفيزيائية “اللون والطعم والرائحة” بالإضافة للأملاح الكلية المنحلة والناقلية الكهربائية والعكارة.
يتابع “الدرويش” من أهم الاختبارات الكيميائية التي يجب تنفيذها لنوعية المياه وجودتها هي الاختبارات التي نقوم بها نتيجة تسرب مياه الصرف الصحي إلى المياه أو عند تسرب الأسمدة إلى أحواض المياه حيث نقوم بالبحث عن شوارد النترات والنتريت والأمونيا إن كان هناك تسرب صرف صحي أو الفوسفات إن كان هناك تسرب أسمدة بالإضافة للبحث عن الجراثيم الممرضة وهي ” الأشريشيا كولاي” أو “تعداد الكونيات الكلية”، فوجود أي جرثومة يعني أن المياه غير صالحة للشرب كما أن وجود شوارد النترات بنسبة زائدة يعني أن المياه أصبحت ملوثة.
وتبين معنا خلال العمل بمراقبة نوعية المياه وجود العديد من الآبار غير المراقبة والتي تم حفرها قرب مصبات الصرف الصحي أو الحفر الفنية ما أدى إلى تغير نوعية وجودة المياه حيث دخلت الكثير من الآبار في مرحلة الخطورة، وأمست غير صالحة للشرب، لذا قمنا بالكثير من الندوات والجلسات التعريفية بخطورة هذا الأمر وأهمية تعقيم هذه المياه وفحص نوعيتها فيزيائياً وكيميائياً حتى تصبح صالحة للشرب.
يتابع “الدرويش” : ” نقوم بإجراء تحليلات بشكل دوري بالإضافة لتحاليل يومية وأخرى تتم في حال الاشتباه بحدوث مرض معين على الآبار العامة، حيث نستجيب لطلبات المجالس المحلية الراغبة بمراقبة مياهها، وغالباً ما تكون المياه الجوفية الخارجة من الآبار الارتوازية مياه نقية وخالية من الجراثيم الممرضة، لكن المشكلة تكمن في المياه السطحية القريبة من مصدر تلوث أو المياه المنقولة والمخزنة والتي قد تتعرض لتلوث مائي أو تلوث جرثومي، وخاصة أثناء الضخ على الشبكات، بحيث تتسرب مياه الصرف الصحي نتيجة خلل ما إلى شبكات المياه الرئيسية.
في الوقت ذاته يرى المهندس الكيميائي هنانو السلوم أن الخطر الأكبر في عملية التلوث تتعرض له المياه السطحية نافياً إمكانية تلوث المياه الجوفية “البحرية”. ومهما ارتفعت نسبة التلوث فإنها ستهمل أمام نسبة مياه البحار وأمام عمليات الفلترة والتصفية التي تتم تحت سطح الأرض، على خلاف ما تتعرض له الآبار السطحية من تلوث ناجم عن المخلفات الصناعية والصرف الصحي والأسمدة وغيرها فانعدام الجريان تحت سطح الأرض، أو الجريان البسيط الذي لا يتجاوز 500 متر يمنع فلترة تلك المياه ذاتياً.
تلوث ظاهر بالعين المجردة
في بعض مناطق إدلب تفاقمت مشكلة تلوث الآبار للحد الذي يمكن معاينته بالعين المجردة والفحص الفيزيائي، يقول المهندس “أنس الرحمون” المختص في مجال الأرصاد الجوية وعلم البيئة إن تغيرات في صفات المياه الخارجة من بعض الآبار السطحية كاللون والرائحة وظهور “رغوة” على السطح تظهر خلال استخدام هذه المياه، وعند تحليلها تبين أن مياهها غير صالحة للاستهلاك البشري، بسبب احتوائها على بكتريا السالمونيلا، (التي تنضوي تحت الجراثيم المعوية)، وهي المسبب الرئيسي لـ “الحمى التيفية” التي تصيب الإنسان عن طريق العدوى الفموية بعد شرب الماء الملوث بمخلفات الإنسان، ما يثبت نظرية تلوث مياه البئر بمياه الصرف الصحي.
وبعد جولة سريعة في المنطقة ومعاينة عدد من الآبار، وجدنا تسريباً في خط الصرف الصحي جراء قصف سابق للطيران الحربي في الفترات الماضية، ما جعل عدداً كبيراً من الآبار المحيطة بالمنطقة عرضة للتلوث.
الخبرة بديلاً للتراخيص
يتابع الناس حفرهم للآبار بطرق عشوائية بالرغم من قرار مديرية الموارد المائية، ويرى أحمد (صاحب حفارة) إن على المديرية تأمين البديل للناس إن كانت ترغب باستجابتهم لقراراتها، إلّا أن أصحاب الحفارات أنفسهم يراعون بـ “الخبرة” بعض الأشياء الرئيسية كالقرب من مياه الصرف الصحي والمسافة بين الآبار وتجنب الحفر بأعماق كبيرة للتخفيف من أثر الآبار على المياه الرافدة للمجمعات المائية، ويعتبر حفر الآبار السطحية ضرورة لأن هذه الخزانات ستفقد إن لم يتم استثمارها بالشكل الأمثل، فلماذا لا يتم الاستفادة منها! وهو ما أكده الجيولوجي عبد الله السعيد والذي قال إن الحفر بصورة منتظمة ومراعاة الشروط لا يؤثر على المياه الجوفية التي تحافظ على منسوبها بصفة دائمة كونها مياه متجددة عبر شبكات وأنهار داخل الأرض، في حين ينحصر التأثر في المياه الجوفية غير المتجددة التي ينقص منسوبها بفعل الاستجرار.
ليس الأمر حكراً على المناطق التي تخضع لسلطة المعارضة إذ تقدر وزارة الري في مناطق النظام عدد الآبار غير المرخصة فيها بـ 112074 بئراً من أصل 229195 بئراً في عموم الأراضي السورية، وبحسب المنظمة الأغذية والزراعة (FAO) إن الحكومة سنّت القوانين التي تحظر حفر الآبار وتلويث المياه الجوفية غير أنه لا توجد آليات واضحة لإنفاذها، وهو ما سيؤدي إلى اتساع ظاهرة التصحر والجفاف الناجمة عن نقص الموارد المائية، والتزايد المستطرد في شح مياه الشرب، خاصة وأن أعداداً كبيرة من هذه الآبار تتعرض للجفاف سنوياً ما يدفع أصحابها إلى زيادة عمقها أو استبدالها بآبار عشوائية جديدة.
فريق فوكس حلب