قبيل الحصاد بأيام، ومنذ نحو أربعة أشهر، تعرّضت خمسة هكتارات مزروعة بالقمح والشعير تعود ملكيتها لـ “فهد الخطيب” من أهالي ناحية الزربة جنوب حلب للاحتراق بالكامل. يقول فهد إن قذائف المدفعية التي سقطت في حقله كانت السبب وراء الحريق الذي لم يترك سوى الرماد، وحددّ مصدر القذائف من المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام والميليشيات الإيرانية في ناحية الحاضر، مؤكداً أن خسارته زادت عن مليوني ليرة سورية (كلفة المحصول) إضافة إلى أضرار كبيرة في التربة، دون أن يتم تعويضه من أي جهة رسمية أو منظمة إنسانية.
ليس ببعيد عن ناحية الزربة وفي قرية “خلصة” تسببت القذائف التي أطلقتها قوات النظام والميليشيات الإيرانية من سد شغيدلة وجبل عزان باحتراق عشرة هكتارات تعود ملكيتها لـ “يوسف حج محمد” مدير مدرسة برنة الابتدائية، والذي قال إن الحرائق تسببت باحتراق كامل محصوله من الشعير، كما تسببت بإحراق عدد كبير من أشجار الزيتون والمحاصيل الزراعية في القرية.
كذلك طالت الحرائق نحو 200 هكتار في نهاية مايو / أيار الماضي، في قرى ريف حلب الجنوبي وريف إدلب الجنوبي وحماه، وذلك باستخدام الصواريخ المحملة بالفوسفور.
زيادة الحرائق ليس أمراً اعتيادياً
حدوث بعض الحرائق قد يُعد أمراً اعتيادياً خلال مواسم الحصاد، نتيجة الإهمال (رمي السجائر كمثال) وارتفاع درجات الحرارة. إلّا أن ما حدث في العام 2019 في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة كان مختلفاً، إذ يُعتبر جزءً من سياسة الأرض المحروقة التي تتبعها قوات الأسد خلال معاركها لاستعادة السيطرة على المنطقة، وهو ما يخالف المادة 54 من البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، والتي تمنع “مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل المواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتج المحاصيل والماشية”.
ما نقله السيدان فهد ويوسف يثبت ضلوع قوات النظام بافتعال هذه الحرائق، كما يقول صابر الباشا (أحد المواطنين من جنوب حلب) أن طائرات الاستطلاع التي تحلق في سماء ريف حلب الجنوبي قامت برمي بالونات مربوطة بمقذوف متفجر من العيارات النارية، محملة بمادة الهيدروجين التي تتفاعل مع حرارة الجو ما يؤدي إلى حريق صغير سرعان ما ينتشر في المحاصيل الجاهزة للحصاد، ومعظمها سقط في الأراضي الزراعية وعلى فترة تتعدى الشهرين بشكل شبه أسبوعي ، وبحسب سكان محليين أن هذه الأكياس لا تنفجر مباشرة ، إنما تتفاعل مع حرارة الجو وتنتفخ لتسبب حريقاً فيما بعد، وكانت تقارير إخبارية و صور لهذه البالونات منشورة على المواقع الالكترونية أكدت صحة هذا الكلام.
ويقول المهندس الزراعي حذيفة أبو اليمان من ريف إدلب الجنوبي “إن الحرائق التي أصابت المحاصيل الزراعية في الموسم الماضي طالت مساحات واسعة من القمح والشعير والبقوليات من عدس وكمون وحمص بنسب متفاوتة، ففي ريف حماه الشمالي جرى إحراق ما يقارب 70% من المحاصيل المزروعة، أما فيما يخص منطقة ريف إدلب الجنوبي فقد تضرر نحو %50 إلى 60 % بالحرائق. وفي ريف إدلب الجنوبي الشرقي تراوحت نسبة الحرائق بين20 % إلى 30 %.
ويؤكد أبو اليمان أن الأسباب الرئيسية للحرائق تعود إلى قصف النظام وحلفائه لهذه المناطق بالقنابل الفوسفورية والقنابل الانشطارية التي تنفجر في الجو بمساحات كبيرة، وتسبب حريقاً بمجرد سقوطها على الأراضي الزراعية.
الأقمار الصناعية تؤكد
بثت وكالة أسوشتيد برس صوراً لاحتراق المحاصيل الزراعية في ريف حماه الشمالي، عبر الأقمار الصناعية قالت إنها حصلت عليها من شركة “ماكسار لتكنولوجيا الفضاء”، وأضافت أن احتراق هذه المساحات من الأراضي جاءت نتيجة القصف العنيف من قبل قوات الأسد معتبرة أن حرق المحاصيل جزء من حملة “الأرض المحروقة”.
وكان “هيرفيه فيرهوسيل” متحدث برنامج الغذاء العالمي في الأمم المتحدة قد قال في إفادة صحفية بجنيف “أحدث تفجر للعنف في إدلب وشمال حماة خلف عشرات الضحايا، وأحرق آلاف الفدادين من المحاصيل الضرورية والأراضي الزراعية”، وأضاف دون تحديد الجهة المسؤولة أن “محاصيل مثل الشعير والقمح والخضراوات تعرضت للتلف”. وأن “تدمير المزارع والقطاع الزراعي غير مقبول”.
وفي الفترة ما بين يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2019، قام فريق البعثة المشترك بين منظمة الفاو وبرنامج الأغذية العالمي بزيارة 10 محافظات من أصل 14 محافظة في سوريا، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى محافظتي الرقة وإدلب بسبب انعدام الأمن بحسب تقرير البعثة.
ووصف تقرير أممي مشترك صادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) وبرنامج الأغذية العالمي بتاريخ 5-9-2019 الحرائق التي طالت الحقول والمحاصيل الزراعية في شمال شرق سوريا بأنها «على نحو أكثر توتراً وحدة» في 2019، متحدثاً عن أن بعض الحرائق جرى إشعالها عمداً في مناطق ينشط فيها الصراع.
الدفاع المدني السوري ودوره في إطفاء الحرائق
يقول إبراهيم الحاج (مدير المكتب الإعلامي في مديرية الدفاع المدني بحلب) إن المديرية قامت بالتعامل مع 151 حريقاً خلال العام الحالي في ريفي حلب الجنوبي والغربي، بمساحة تقدر بـ 400 هكتاراً كانت قد احترقت نتيجة القصف، (وفي إدلب أحصت فرق الدفاع المدني إخماد الحرائق في 1250 دونماً من الأراضي الزراعية في ريف إدلب الشرقي) ويؤكد أن فرق الدفاع المدني وبإمكانياتها القليلة بسبب قلة سيارات الإطفاء عملت على تقديم المساعدة في مواجهة الحرائق في بعض المناطق التي تسيطر عليها دون أخرى، خاصة وأن المنطقة خلال موسم الحصاد كانت تشهد حريقاً أو أكثر خلال اليوم الواحد، وفي مناطق متفرقة.
ويضيف الحاج إن فرق الدفاع المدني قامت بتوزيع بوسترات وبرشورات على الفلاحين والمدنيين في المنطقة لتفادي حدوث الحرائق وطرق التعامل معها، وذلك بتوجيههم لبعض الارشادات كإبعاد المواد القابلة للاشتعال عن الأراضي الزراعية، ومراقبة الأراضي المزروعة بشكل دوري لتجنب وقوع خسائر كبيرة في حال حدوث القصف، والابتعاد قدر الإمكان عن خلق تجمعات مدنية أثناء جني المحاصيل خوفاً من استهداف الطيران لأماكن التجمعات وتجنب ترك أكياس المحاصيل الزراعية ونقلها الى أماكن أكثر أماناً، كذلك التخلص من خط النار
(الحشائش اليابسة على طرفي الطريق)، بالإضافة إلى دعوة الفلاحين الذين يمتلكون جرارات زراعية لترك سكة الفلاحة مركبة على الجرار في حال حدوث أي حريق لعزل النار، وأصحاب الصهاريج الزراعية لكي يبقوا الصهاريج بجاهزية كاملة تحسباً لحدوث أي طارئ وإبعاد الأعشاب اليابسة عن أماكن تجمعات محطات الوقود لمنع حدوث أي حريق.
أضرار مستقبلية
يقول المهندس الزراعي أحمد الموسى إن الضرر الذي يلحق بالتربة نتيجة الحرائق، يحدده حجم الحريق ومدته وكثافته، إلّا أنه يؤكد على التأثير المستقبلي للحرائق الأخيرة، يتمثل بانخفاض ph التربة (حموضة التربة)، كذلك محتواها من المواد العضوية وخصوبتها، وهو ما سيؤثر على مردود المحاصيل في الأراضي التي تعرضت للاحتراق تدريجياً، خلال سنوات.
تزيد الحرائق، خاصة خلال مرحلة جني المحصول، من أعباء المزارعين في الشمال السوري الذي يعتمد أكثر من نصف سكانه على الزراعة في حياتهم، وهو ما شكل وسيلة أخرى من وسائل الضغط على المدنيين تستخدمها قوات الأسد لتجويع وحصار هذه المناطق، وإجبارها على النزوح أو المصالحة، وهو ما شهدته أرياف إدلب الجنوبي وريفي حماه الشمالي والغربي خلال الأشهر الماضية من تهجير. كذلك قامت قوات الأسد بعد سيطرتها على هذه القرى بحرق وتكسير الأشجار المثمرة والمحاصيل الزراعية بدافع الانتقام من السكان، يقول أبو اليمان “آلاف الهكتارات من الأشجار المثمرة والأراضي الزراعية تعرضت للتلف والتحطيب الجائر في هذه المناطق، في الوقت الذي لا يبدو أن هناك أمل في المستقبل القريب لعودة الأهالي إلى قراهم وإعادة زراعتها”.