بنهاية قراءة هذا الكتاب، تكون رحلتي في عالم صلاح عيسى تجاوزت عامها الخامس. خمس سنوات عرفت فيهم ما لم أعرفه عن التاريخ المصري، وتعمقت نظرتي لما كنت أعرفه. كان صلاح عيسى في هذه السنوات بمثابة “صديق لدود” أختلف معه في كل كتاب، وأحياناً في كل فصل. لذلك فأنا أعتبر صلاح عيسى بطلاً من أبطال حياتي ولكنه الوحيد الذي أختلف معه ونخلق نقاشات لن تنتهي أبداً! هو من أبطال حياتي لأنه ملّكني حق الاختلاف والنقاش والرفض أحياناً لما يصل فشكّل بمشواره الصحفي والسياسي مصدر إلهام عميق.
الكتاب الذي أنقذ صاحبه:
يقول عيسى أن هذا الكتاب كان منقذاً له من سوء الأوضاع السياسية والثقافية في مصر في ذلك الوقت، فالكتاب الذي نشرت مواده ما بين عامي 1972 و1975 كان شاهداً على نتائج هزيمة 1967 الكارثية على المصريين، وبالأخص المثقفين المصريين الذين ينتمى إليهم عيسى، ثم شاهداً على التغيرات السريعة بعد حرب أكتوبر وما تلاها من تحولات جذرية في المجتمع والسياسة في مصر. اقرأ ذلك وأفكر في نفسي وأصدقائي، كيف يمكن التعامل مع هزيمة الثورات العربية؟ كيف يمكن أن نتعافى من الآثار النفسية والسياسية لتلك الهزيمة؟ هل يحتاج كل منا إلى مشروع فكري ينقذه من الانهيار وسوء الوضع والتوحش المستمر؟
أنا لا أمتلك إجابة حتى الآن، ولكن صلاح عيسى قدّم بكل شجاعة ما قام به كمحاولة لتخطي هزيمته الشخصية والوطنية، فكان هذا الكتاب معبراً ليس فقط على تقلبات التاريخ المصري وتعرجاته لكنه يعبر بشكل جلي عما أتخيله عن شخصية صلاح عيسى، التي تجمع الأمل واليأس والجد بالمزاح، فيتحقق له ما سعى إليه وأعطى كل طاقته بأن يكون جزء من ضمير الشعب المصري وتاريخه المضحك الحزين.
التأريخ من أجل القارئ العام:
“كان قارئ الصحيفة اليومية، هو ذلك القارئ العام نفسه الذي أسعى إليه، وكان قد سقط طوال سنوات بين براثن الصحف الرسمية، فانهمكت تخرب عقله ووجدانه، وتسطح وعيه وتهرب به مما كان يواجهه من هموم ومهام، وحتى بعد أن انهارت الأبنية المزيفة التي ظلت هذه الصحف نفسها تؤسسها وتدعمها على امتداد السنوات التي سبقت نكسة يونيو 1967، عادت الصحف تمارس دورها القديم نفسه، واحتلها –إلا فيما ندر- المهرجون والمشعوذون والكذبة والفريسيون، وحررها لاعبو الكرة، و(تشارلز مانسون) و(جاكلين كنيدي)، وأشباههم يسعون كل صباح إلى القارئ المسكين-غير المحصن إلا بفطرته- بسخافات العالم ومحتويات أمعائه الغليظة؛ الشذوذ والانحطاط والعبث واللاجدوى والجرائم والادعاءات الرسمية التي تفح بخراً وتنشر بهتاناً”.
في هذا المقطع الذي يأتي ضمن تعليق عيسى على حكايات الكتاب وملابسات ظهوره، يتضح لنا جزء هام من مشروع صلاح عيسى التاريخي. يهتم عيسى بما يسميه “القارئ العادي” أي الذي يشتري يومياً الجريدة ويُشكل بمحتواها ثقافته ووجدانه. أتذكر أبي لأنني أعتبره المثال الأبرز على القارئ العادي الذي شاهدته في حياتي، فعلى مدار سنوات طفولتي ومراهقتي تابعت رفقة أبي انهيار الصحافة المصرية وانحطاطها، ثم أفول تأثيرها على المستوى العربي بعد أن كانت بعض الصحف اليومية هي صحف لكل من يتحدث العربية وليس المواطن المصري فقط. دافع عيسى بكتاباته وتركيزه على أحداث تاريخية كان الشعب هو البطل الأبرز فيها عن تملك الناس للتاريخ، يرى أن ذلك هو السلاح لتملك السياسة والخطاب في وجه السلطة التي تسعى دوماً لفرض روايتها الرسمية لتاريخنا وواقعنا فتتملك الحاضر والمستقبل. في كتبه البارزة مثل “الثورة العرابية”، “رجال ريا وسكينة” وصولاً لهذا الكتاب، يحاول عيسى أن يخاطب القارئ العادي بصفته صانعاً للتاريخ وليس مستهلكاً له، يسرد له ما كان يفعل أقرانه في أزمنة ماضية بشكل لا يخلو من التحريض أحياناً مدافعاً بشجاعة ووضوح عن أفكاره السياسية.
الموضوعية وعدم الحياد ليسا أعداءً:
“ولست في حاجة إلى أن أكرر، أنني فيما اجتهدت في فهمه من ظواهر التاريخ المصري والعربي كنت بقدر الطاقة موضوعيّاً، لكني لم أكن محايداً قَطُّ، وذلك ما كان واضحاً أمامي وأنا أختار تلك الومضات، فقد حرصت على أن أروي الواقعة كما حدثت بقدر ما تسعفني المقارنة بين الروايات المختلفة للحدث الواحد، وتلك هي الموضوعية كما أفهمها، لكنني رجحت دائماً تلك الروايات التي تقف مع الشعب – بمفهمومه التاريخي – في صراعه الأزلي والدائم ضد أعدائه ومستغليه، فالحياد بين الشعب وبينهم، كان دائماً –في منظوري- خيانة قبيحة وصريحة”.
في هذا المقطع من الكتاب، يعرض صلاح عيسى وجهة نظره عن عملية التأريخ ومهنة المؤرخ كدور تاريخي فيدافع عن أن الموضوعية يجب أن تكون جنبأ إلى جنب مع إعلان موقف المؤرخ السياسي من الحدث التاريخي.
هنا يدخل المؤرخ إلى عملية صناعة التاريخ نفسها، يشارك بتعبيره عن ذاته ووجوده وتفاعله مع الأحداث، فالعلاقة بين المؤرخ والحدث، التاريخ والقارئ، ليست عملية خطية واضحة إنما عملية متشابكة ومعقدة يؤثر فيها القارئ بالمؤرخ ويخلق فاعلية جديدة للحدث التاريخي بردة فعله عليه.
انحاز عيسى في كل كتاباته إلى الشعب باعتباره الفاعل الأبرز في العملية التاريخية، مؤمناً بقوته وقدرته على مواجهة ما وصفهم عيسى في كتب كثيرة بـ “أعدائه”.
قد أختلف مع الكاتب في وجهة نظره حول التاريخ والفاعلين فيه والمفاهيم التاريخية التي ينطلق منها، هذا حق أصيل للقارئ مثلما الانحياز هو حق أصيل للكاتب. في رأيي لم يؤثر ذلك على “موضوعية” صلاح عيسى المتمثلة في بحثه الدؤوب وتجميعه لروايات عديدة للأحداث في عملية استغرقت سنوات شاقة في بعض الكتب، ولعل هذا أمر مشجع للقارئ بأن يبحث ويخلق لنفسه روايته هو الآخر وانحيازاته.
قد يكون مناسباً استذكار مقطع للمفكر الماركسي الروسي جورجي بليخانوف، يشرح المفكر الأبرز للحركة الماركسية الروسية رأيه في الموضوعية والحياد قائلاً “وحيثما يكون على المؤرخ وصف الصراع بين قوى اجتماعية متضادة، فإنه سيتعاطف حتماً مع طرف أو آخر، ما لم يكن هو ذاته قد أصبح متحذلقاً بغيضاً، ومن هذه الواجهة سيكون ذاتياً سواء تعاطف مع الأقلية أو الأغلبية. لكن مثل هذه الذاتية لن تمنعه من أن يكون مؤرخاً موضوعياً كاملاً إذا لم يبدأ في تشويه تلك العلاقات الاقتصادية الواقعية التي نمت على أساسها القوى الاجتماعية المتصارعة”.
بين الكتاب والآخر تعمقت صداقتي بصلاح عيسى، كما كانت صداقة صلاح عيسى مع شخصياته التاريخية كـ عبد الله النديم والشيخ علي يوسف وغيرهما. صداقة من حسن حظي أنها ستتعمق أكثر لأن هناك كتب لعيسى لم أقرأها بعد.