(هناك قضاة كثيرون، هناك عدلٌ قليل في هذا العالم! القتل فلكلور، أدركتُ ذلك وأنا في الخمسين من عمري. ظلوا يطوّرون القتل دون أن يرضوا بالنتيجة) تشارلز سيميك
يومان فقط هما كل ما تبقى لي قبل موعد مغادرتي للقاهرة، أؤجل اختيار الكتب التي سأحملها معي حتى آخر لحظة. كنت أتوقع أن يكون اختيار عدد محدود جداً من الكتب في مكتبتي هو أصعب الأشياء التي أواجهها بعد وداع الأشخاص. ما توقعته كان صحيحاً.
أحاول اختيار بعض الكتب مستمعاً لنصح الكثيرين بتجنب العناوين السياسية، بصعوبة أرضخ لذلك. يتبقى الآن كتاب واحد من أجل حقيبة ظهري، لا أعرف كيف قادتني يدي إلى سيرة حياة أكثر شاعر أمريكي أحببته، وأنا شبه متيقن أن الكتاب يركز على الشعر والفلسفة ويبعدني عن السياسة. في الحقيقة كنت متوهماً!
الزمن السوري الذي يعيشه العالم
يبدأ سيميك مباشرةً بالحديث عن نزوحه أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية من بلغراد في رحلة طويلة استغرقت سنوات تنتهي في الولايات المتحدة. يسرد سيميك تفاصيل النزوح المرعبة وكأنها حدثت بالأمس. إذا لم تكن لديك معرفة كبيرة بأهوال الحرب العالمية الثانية وفظائعها ستدرك كيف انتهى العالم وقتها واحتاج المنتصرون لبناء عالم وتقاليد سياسية ومحاذير دولية جديدة. لكن ماذا عن زمننا؟
أكتب الآن والحرب على الشعب السوري مستمرة، حرب الإبادة التي بدأها الأسد وحلفاؤه منذ ثماني سنوات. نازحون، مهجرون، مصابون بهجمات السلاح الكيماوي! تناسب هذه الجملة أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية ولكنها في سوريا.
هل شاهد العالم أقنعة السلاح الكيماوي أثناء الحرب العالمية؟ هل شاهد المدن المحطمة تماماً جراء القصف الإبادي؟ هل شاهد العالم ملايين النازحين بطول الكوكب وعرضه في البحر والبر؟
من أجل كل ذلك انتهى عالم الحرب العالمية الثانية الذي يوصفه سيميك بدقة وبشاعة، لماذا لا ينتهي العالم الآن بعدما شهد على مجازر الكيماوي في كل سوريا؟ لماذا لا ينتهي العالم بعدما رعت الأمم المتحدة صفقات الكيماوي! (لماذا خُلقت الأمم المتحدة إذن؟) وبعدما غرق الآلاف في البحر وقُتل بعضهم على الحدود. أتساءل ما الفرق بين هذا وذاك!
بالنسبة لي أنهت الثورة السورية والحرب المستمرة العالم المُشكل بعد الحرب العالمية. كل القيم التي أقرها المنتصرون في الحرب وخلقوا الأمم المتحدة من أجل حمايتها ذابت في لحظات. أعلنت أجساد السوريين والسوريات نهاية رسمية لهذا العالم الوحشي الذي صمت فيه المجتمع الدولي على استباحة السوريين. “مجتمع دولي”. لم تعد تلك الكلمة تعن لي شيئاً الآن. طرحت الثورة السورية الأسئلة التي شغلت العالم منذ بداية هذا القرن، تحمل كل العالم تقريباً أسئلة النصف الأول من القرن العشرين ولكن يتحمل الشعب السوري وحده عبء أسئلة هذا الزمن، لذلك هذا الزمن ليس إلا سورياً.
سيميك المحظوظ والسوري المستباح
في أكثر من موضع في الكتاب، اعتبر سيميك نفسه محظوظاً. يروي أن عائلته لم تلقى كماً من العذابات التي لقيها الآخرون، ويروي أنه في النهاية حصل على ملاذ آمن ووطن جديد يشعر نحوه بالحب الشديد. أنا أيضاً أرى سيميك محظوظاً عندما أتابع تطورات النزوح السوري. من الغرق في البحر والموت من البرد على الحدود وصولاً إلى طلب الدول التي نزح إليها السوريون بعودتهم واصفة سوريا الآن بأنها “آمنة”. عودوا فالبلد أصبح رائعاً حتى مع وجود “آثار جانبية” للعودة كالموت من القصف الأسدي/الروسي أو الاعتقال في أقبية سجون النظام! لا يهم، المهم أن تعودوا بأي ثمن ولو كان جثثكم.
هناك سبب آخر يجعلني أعتبر سيميك محظوظاً، وجد سيميك الفرصة ليتملك روايته ويعيد سردها أمام العالم. كطفل شاهد على الحرب ومشارك فيها كنازح ستبقى شهادته صرخة أمام العالم لتقول لنا ما حدث. الآلاف من الأطفال السوريين لا يمتلكون واقعياً تلك الفرصة، تملك التاريخ وطمسه هو أحد الأسباب الرئيسية لحرب الإبادة من النظام. يصل سيميك في النهاية للحنين لأيام الحرب والقصف في بلغراد، كم هو محظوظ في أعين الملايين السورية!
الطفل الذي لا ينسى أبداً
منذ السطر الأول في الكتاب حتى نهايته، شعرت بأن الذي يروي هو سيمك الطفل، تشكلت ذاكرته بالنزوح والحرب كموضوع أساسي حتى وهو يكتب هذه السيرة في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين وبعد مرور كل هذه السنين. مرت السنوات والأحداث والعلاقات، أصبح سيميك شاعر أمريكا الأول وحظي بالاحتفاء والاعتراف الكاملين من المجتمع الذي يعيش فيه. لكن، ظل النزوح هو الحدث المؤسس لذاكرته، لأشعاره، حتى رؤيته عن العالم وفقدان الثقة فيه.
الذاكرة حق للناجي من الإبادة، نجا سيميك لذلك تملك الحق في ذاكرته، في روايته عن الأحداث التي عاشها وعاشها الملايين من سكان بلده الأصلي. الذاكرة حصن ضد القاتل، تخيفه وترعبه. أعتقد أن القاتل يخاف بشدة من ذاكرتنا، بما تحمله من دليل على عدم موت قضايانا، دليل على وحشيته وبقائنا رغم كل شيء.
أعتقد أن الأطفال السوريين لن ينسوا ما حدث لهم مطلقاً، أنا لا أعرف ما سيحدث مع مرور الزمن ولا أتمنى شيئاً سوى ما يقرروه بأنفسهم حتى تصبح روايتهم ملكهم. لكن لي الحق في أن أتمنى النجاة والحرية لهم وليقرروا ما يريدون بعد ذلك. النجاة هي التي أعطت الفرصة لسيميك أن يروي العالم الجديد الذي خُلق بعد الحرب. أريد عالماً جديداً لي وللسوريين، عالماً عادلاً لا أكون فيه جغرافيّاً الآن أقرب إلى سوريا من ملايين السوريين، وفي نفس اللحظة بعيداً عن وطني.