“بأية حالٍ عدت يا مكدوس” بعبارةٍ ممزوجةٍ بين السخرية والحزن من الواقع، تصف فاطمة العمر من سكان ادلب، كيف استقبل السوريون شهر المونة، والذي يكون فيه المكدوس دائماً على رأس القائمة، لكن ظروفاً كثيرة هذا العام عكّرت بهجة وطقوس تحضيره، فقررت بعض الأسر العزوف عن تحضير المكدوس، أو إجراء تغييرات على مكوناته، ليتسنّى لهم ادخاله في مونتهم في ظل إمكانياتهم المتواضعة، بينما استمر آخرون في تحضيره بالطريقة المعتادة.
اعتاد السوريون كل عام بين شهري آب وأيلول على تحضير المكدوس، الذي يعتبر من الأكلات الشعبية المفضّلة لديهم، وتكاد لا تخلو مائدة فطورٍ منه، لكن موسم المونة هذا العام حلّ ثقيلاً على ميزانية المواطن.
تزامن إعداد المكدوس مع عيد الأضحى وما يحتاجه من تأمينٍ للمستلزمات من حلويات وألبسة وأضاحي، مروراً بموسم المدارس وشراء اللوازم المدرسية التي تقصم أسعارها الظهر، وليس انتهاءً بفاتورة المحروقات المقبلة التي يجب تجهيز مخصصاتها المادية سلفاً، ومازاد الطين بلّة، الانهيار الكبير في قيمة الليرة السورية والتي انعكست سلباً بطبيعة الحال على واقع الأسعار.
الكيلو على أصولو بــ 1300
ويتربع “المكدوس” على عرش المونة لدى الأسر السورية، لكن حركة الإقبال على شراء مستلزماته كانت أقل خلال الفترة القليلة الماضية، مع ارتفاع تكاليف تحضيره عدة أضعاف عما كانت عليه قبل سنوات.
وقالت فاطمة العمر “تحضير المكدوس على أصوله مكلف جداً، فمن تريد تحضيره بنكهة مميزة، تحتاج لـ جوز نوع جيد ودبس فليفلة وزيت زيتون أصلي وثوم وباذنجان بلدي”، مشيرةً الى أن “سر نجاح المكدوس يعتمد على أمرين، أن تكون حشوته ممتلئة، وأن يتم غمر كل حبات الباذنجان بزيت الزيتون الأصلي”.
واعتادت ربات البيوت سابقاً على تحضير كميات كبيرة من المكدوس تصل إلى مئة كيلو من الباذنجان، لكن مع ارتفاع التكاليف عمدت الكثير من النساء لتقليل كمياته، كما قامت بعضهن بالتلاعب بمحتوياته بحيث تصبح تكاليف تحضيره أقل وتناسب الوضع المادي المتردي لكثيرٍ من العائلات.
وشرحت فاطمة تكلفة المكدوس من النوع الجيد قائلةً لموقع فوكس حلب: “لتحضير كمية متوسطة، نحتاج لعشرة كيلو من الباذنجان البلدي بسعر (1500 ليرة سورية)، كيلو جوز (6 آلاف ليرة)، 3 كيلو دبس فليفلة (1050 ليرة)، رأس ثوم (200 ليرة)، 2 لتر زيت زيتون ( 4 آلاف ليرة)، كيلو ملح خشن ( 100 ليرة)، ناهيك عن ثمن الغاز اللازم للسلق، وبالتالي تصل الكلفة الى 13 ألف ليرة سورية ( 1300 ليرة للكيلو الواحد)، أي ما يعادل ثلث راتب الموظف”.
وتعتبر هذه الكمية قليلة مقارنةً بعائلة متوسطة من خمسة أشخاص، حيث أن عشرة كيلو لا تساوي أكثر من ثلاثة مرطبانات متوسطة الحجم، وبالتالي تحتاج العائلة الى أربعين كيلو باذنجان على الأقل لتكفي مونة الشتاء، والتي تكلف حوالي 50 ألف ليرة، وهذا المبلغ يعتبر ثقيلاً على موظف لا يتجاوز دخله أربعين ألف ليرة.
“مكدوس الدراويش”
أم عبدو من سكان مدينة جرمانا في ريف دمشق تفضّل مع عائلتها المكدوس بشكلٍ كبيرٍ ولا سيما على الفطور، لكن وضعهم المادي السيء يعيق تحمّل تكاليف مستلزماته، لذلك عمدت إلى إدخال بعض التعديلات على الحشوة، كي تستطيع تحضير كمية كافية للمونة وبسعرٍ منخفض.
تقول أم عبدو لموقع فوكس حلب: “اشتريت باذنجان متوسط الجودة (باذنجان حمصي) سعر الكيلو 100 بدلاً 150 ليرة، إضافةً لتخفيض كمية الجوز، بحيث وضعت نصف كيلو جوز متوسط الجودة لكل عشر كيلو باذنجان بسعر 2000 ليرة سورية، أو وضع كيلو فتسق عبيد بدل الجوز بـ (1500 ليرة للكيلو)، إضافةً لــ 2 كيلو دبس فليفلة (600 ليرة)، ورأس ثوم (200 ليرة) وملح (100 ليرة)، كما قمت باستبدال زيت الزيتون بزيت نباتي خفيف (سعر الليتر 600 ليرة سورية)، بحيث أضع ليتر واحد لكل عشرة كيلو”.
تضيف أم عبدو قائلةً: “اعتماد تلك المكونات السابقة كفيلة للحصول على مكدوس بسعر مناسب، بحيث تبلغ تكلفة تحضير عشرة كيلو 4500 ليرة سورية، وهذه التكلفة تناسب أصحاب الدخل المتوسط والمحدود، لذلك يسمى مكدوس الدراويش، ومن خلال هذه الطريقة يمكن تحضير خمسين كيلو مكدوس بحوالي 22 ألف ليرة سورية، والتي تكفي كامل مونة الشتاء”، مشيرةً الى أنه “يمكن الحصول على مكدوس الدراويش بنكهة مقبولة، في حال وضع نصف كيلو جوز لكل عشرة كيلو باذنجان، بدلاً من كيلو فستق عبيد، وخلط القليل من زيت الزيتون مع الزيت النباتي”.
ومع حساب التكلفة وفق المكونات المتوفرة، نجد أن تكلفة كيلو المكدوس الأصلي 1300 ليرة، ومع افتراض أن كيلو الباذنجان يحتوي 13 حبة، فبالتالي تكلفة قطعة المكدوس الواحدة 100 ليرة، أما “مكدوس الدراويش” فإن سعر الكيلو منه 450 ليرة، وبالتالي تكلّف القطعة الواحدة 35 ليرة.
وتعتبر تكاليف المكدوس أكثر مقارنةً بالعام الماضي، حيث كان يبلغ تكلفة الكيلو الأصلي 1000 ليرة، ومكدوس الدراويش 300 ليرة، ويرى الباحث الاقتصادي محمد بكور، أن “الارتفاع هذا العام في تكاليف تحضير المكدوس، يعود بالدرجة الأولى إلى تراجع قيمة الليرة السورية إلى 680 أمام الدولار، كما أن العمليات العسكرية في الغوطة الشرقية العام الماضي، تسببت في احتراق وتقطيع كثير من أشجار الجوز، الذي كان يعتبر من أفضل أنواع الجوز الذي يعتمد عليه السوريين في تحضير المكدوس، وبالتالي فإن تراجع أعداد أشجار الجوز تسبّب في ارتفاع سعره، إضافةً إلى ارتفاع أجور نقل مستلزمات المكدوس من باذنجان وفليفلة وزيت زيتون”.
ويعتبر شهر أيلول شهر المتاعب للسوريين، ففي هذا الشهر عليهم تأمين المونة وعلى رأسها المكدوس، إضافةً إلى البامية والفاصولياء وغيرها من الخضروات الصيفية التي يتم تموينها للشتاء، وبنفس الوقت هناك المستلزمات المدرسية وتكاليف شراء مواد التدفئة لفصل الشتاء.
في المقابل لجأت بعض النساء إلى الاستفادة من موسم المكدوس، وبات فرصة عمل لهن لتأمين مصدر دخل، خاصةً لمن لا يملكن معيل، أماني نازحة من حماه ومقيمة في دمشق، استفادت من خبرتها في عمل المكدوس واتفقت مع أحد أصحاب المحلات في الشعلان بدمشق لتحضير المكدوس مقابل أجر مادي.
وأضافت أماني “صناعة المونة هي مصدر دخل مناسب، ولاسيما أني معيلة لأربعة أطفال بعد وفاة زوجي بحادث سير، ومع بدء موسم المكدوس اتفقت مع صاحب المحل على الكميات المطلوبة وأجرتها والوقت المحدد للتسليم، ومن ثم استلمت منه كل مستلزماتها، وهنا أبدأ العمل بمساعدة بناتي الصغار اللواتي تعلّمن المهنة مني، وأتقاضى 200 ليرة على كل كيلو مكدوس، وكل ما زادت الكمية زادت أجرتي، بمعنى أني أتقاضى 10 آلاف ليرة لتحضير خمسين كيلو مكدوس، وتابعت قائلةً: “خبرتي في العمل، شجعت أًصحاب محلات أخرى للتعاقد معي على صنع كميات أكبر من المكدوس”.
مكدوس على السكايب!
تبدأ العائلات السورية بتحضير المكدوس مع نهاية شهر آب وبداية شهر أيلول من كل عام، وذلك مع بدء موسم نضج الباذنجان البلدي الصغير والفليفلة الحمراء المخصصان لصناعة المكدوس، حيث يقوم رب البيت بشراء مستلزمات المكدوس، وبعده يجتمع الكبار والصغار لتحضيره في مشهد جميل مليء بالبهجة والمحبة، ويعبّر عن روح التعاون بين أفراد الأسرة الواحدة.
تقول السيدة أم عمار باكير من سكان مدينة الأتارب: “المكدوس أصله حلبي، لذلك فإن سيدات حلب يبرعن في تحضيره، وأجمل ما يميّز المكدوس أنه كان يلم شمل العائلات السورية، سواءً أثناء إعداده أو خلال تناوله، لكن غابت تلك الطقوس للأسف في السنوات الماضية، فمع موجات النزوح والتهجير وزيادة القتل والاعتقال، تشتت أفراد العائلة، وبات من الصعب أن تجتمع كل الأسرة في مكان واحد للتشارك في تحضيره”.
تضيف أم عمار قائلةً: “انتقلت طقوس المكدوس من أرض الواقع الى العالم الافتراضي، فأصبحت أتصل مع كل أخوتي وأقاربي عبر مكالمة فيديو سكايب جماعية، وكل منا تجلس أمام شاشة الهاتف وهي تحضّر المكدوس وكل واحدة تعطي ملاحظات ونصائح للأخرى حسب الخبرة، ونتبادل بنفس الوقت الأخبار ونسترجع الذكريات الجميلة، وحين ننتهي ويصبح جاهزاً للأكل، تقوم كل واحدة بنشر صور مكدوسها على صفحتها على الفيس بوك أو الانستغرام”.
وعن طريقة تحضيره تقول أم عمار: “لتحضير كمية متوسطة من المكدوس، نقوم بجلب 20 كيلو باذنجان بلدي، حيث نقوم أولاً بتقطيع رؤوس حبات الباذنجان، ومن ثم نضعها في طنجرة كبيرة مليئة بالماء، ونتركها على النار حوالي نصف ساعة حتى تنضج، مع مراعاة عدم المبالغة في سلق الباذنجان حفاظاً على تماسكه وقوامه، ثم نرفعه على المصفاة ونتركه ليبرد، وبعدها نضع الملح على كل الحبات، فهو يحافظ عليها لمدة طويلة”.
بعد تمليح الباذنجان، يوضع على مصفاة تحتها وعاء، ويتم تغطيته بطبق مسطح صغير وفوقه يوضع شيء ثقيل، كي يساهم في زيادة الضغط على حبات الباذنجان لتخرج المياه منه، وتستمر هذه المرحلة من 12 إلى 24 ساعة حتى التأكد من جفاف الباذنجان، وفي المقابل يتم تحضير الحشوة، حيث يحتاج 20 كيلو باذنجان الى 2 كيلو جوز، وخمسة كيلو دبس فليفلة، ونصف كيلو ثوم مهروس، وملح حسب الرغبة، يتم خلطها جميعاً ومن ثم توضع الحشوة في حبات الباذنجان، ليتم حفظها أخيراً في برطمان زجاجي أو بلاستيكي مناسب، وتغمر بزيت الزيتون بصورة كاملة، وبعد أسبوع يصبح جاهزاً للأكل.
المكدوس رافق السوريين في كل ظروفهم خلال السنوات الماضية، وفي هذا الإطار قال رياض سليمان مهجّر من زملكا إلى إدلب: “عانينا قبل التهجير من حصار خانق استمر لأكثر من خمس سنوات، لذلك كان المكدوس رفيقنا في ذلك الحصار، فكنا نجتمع في الأقبية حول صحن المكدوس، الى جانب خبز التنور الذي قامت أمي بتحضيره، فعدم دخول أي مواد غذائية، وتوفّر الباذنجان البلدي والجوز بكثرة في الغوطة، جعلنا نعتمد بشكل أساسي على المكدوس إلى جانب بعض المواد المجففة، كالملوخية والبامية، إضافةً إلى الذرة والفول الأخضر والكوسا والفطر”.
ويعتبر المكدوس غذاء متكاملاً، نظراً للفوائد الصحية التي تحويها مكوناته: (الثوم، الجوز، الفستق، زيت الزيتون، الفليفلة، والباذنجان)، حيث تمد تلك المكونات جسم الإنسان بكل أنواع الطاقة، وتساهم في الوقاية من السرطان والأمراض القلبية، وتخفض ضغط الدم المرتفع، وتعزز عمل الجهاز المناعي، وتمنع امتصاص الكوليسترول السيء الضار بالشرايين، وتقلّل الشعور بالجوع، وتكافح شيخوخة البشرة.