ليس غريباً على أبناء العائلات السورية زواجهم من مناطق مختلفة سابقاً، وغالباً ما كان يقتصر على القاطنين في المدن أو طلبة الجامعات، إلّا أنه تطور بشكل واضح خلال الثورة السورية، خاصة في إدلب التي غدت “سوريا مصغرة” بعد أن ضمت أعداداً كبيرة من الوافدين والمهجرين قسراً إليها خلال السنوات الأخيرة ما أسهم في زيادة الارتباط بين العائلات السورية، وتغيرات في بعض العادات، كل بحسب منطقته، ليشكل أبناء المنطقة الجدد عائلة واحدة منكهة بعادات وتقاليد ولهجات سورية مختلفة.
تقول غادة وهي فتاة من مدينة سراقب بريف إدلب الشرقي تزوجت أحد الشبان من مدينة درعا بعد تهجيره عن المدينة إنها وجدت اختلافاً كبيراً في العادات والتقاليد بين المدينتين، بدءً من تحضيرات الزواج التي يتكفل بكامل أكلافها العريس في سراقب، بينما يتساعد الطرفان في تجهيز متطلبات العروس ومنزل الزوجية في درعا، وليس انتهاء عند بعض الكلمات والأطعمة غير المعروفة بالنسبة لغادة وقريناتها في إدلب.
تشرح غادة أن هناك في الخطبة الدرعاوية ما يطلق عليه “السحجة” وهي عبارة عن رقص إفرادي أو زوجي بحلقة دائرية، ويكون فيها الكتف على الكتف، بينما ترتدي المرأة عباءة وتحمل سيفاً تضرب به كل من يعترض طريقها، وسط ترديد الحضور لعبارة “دحي يابوي دحية” فتبدأ السحجة هادئة وتزداد حدتها تدريجياً وفي هذا اليوم يأخذ الخاطب الملكة لمنزل خطيبته لتبدأ بعدها الأفراح.
تقول غادة إنها أحبت هذا التقليد في الخطبة، تبتسم وهي تخبرنا أن واحدة من عادات أهل درعا تقضي باجتماع “كل عائلة العروس وأقربائها وجيرانها وأصدقائها يوم الزفاف لوداعها الذي غالباً ما يقترن بـ النقوط (مبلغ من المال أو الذهب يقدم كهدية للعروس)، ويسيرون معها حتى الوصول إلى بيت الزوج الذي تتكفل عائلته بإطعام الجميع من خلال الولائم المقامة، تقول غادة إن هذا التقليد غير موجود في مدينتها إذ غالباً ما يقتصر وداع العروس على أهلها وبعض المقربين، الذين يمتنعون عن زيارة ابنتهم قبل ثلاثة أيام على الأقل، وهو ما أثار استغراب زوجها ودهشته!
تحاول غادة تعلم بعض الكلمات الغريبة من زوجها الذي يتكلم ما يشبه الفصحى ويضغط على الأحرف اللثوية، تقول إنها تحب طريقته في النطق وتطالبه دائماً بشرح بعض الكلمات غير المفهومة بالنسبة لها، تخبرنا عن معنى كلمة (زعكة) التي قالها الزوج خلال الطعام والتي تعني أن الطعام مالح، وتخبرنا أن زوجها أيضاً أصبح يجيد بعض الكلمات “السراقبية”، ويسألها عن بعض المفردات التي يضيفها إلى قاموسه.
تحب غادة طبق “المليحي” الشهير في درعا بعد تعلمها كيفية صناعته من أخت زوجها، إذ يغيب هذا الطبق “المكون من اللحم والرغل واللبن الجامد والسمن العربي” عن قائمة ربات المنازل في إدلب، تقول إن المليحي الذي صنعته أعجب زوجها، وبالمقابل صنعت له “الملوخية” التي قال إنه لم يأكلها سابقاً وأحبها بدوره.
لا يغيب ذكر “تدمر” في كل مناسبة من قبل أبنائها لشدة تعلقهم بالمكان وشغفهم به، تخبرنا السيدة غيداء التي تقطن بريف حلب الغربي منذ تهجيرها عن المدينة وهي تروي لنا طقوس الأعراس فيها، والتي تبدأ دائماً بهنهونة تصف جمال العروس وانتمائها لأسرة قوية “يلي بطولك ولا يقولوا مايلة، يانخل تدمر وبروجها العالية، وراك (فلان) لتعدّى وانثنى، مثل رمح ماهزه الهوى، ويا حاط المال لا تندم على مالك، ياريتها جوهرة وتغلّ في دارك”.
شهدت تدمر بعض التغيرات في تقاليد سكانها، إلّا أنها ما تزال تحافظ على جزء كبير منها توارثها أبناء المدينة عن أجدادهم، تقول غيداء
إن اتفاق المصاهرة يتم من قبل والدي العروس والعريس قبل أن تتقدم العائلة مع “كبار الاسرة” بالخطبة محملين بالهدايا لقراءة الفاتحة، وغالباً ما يعتمد الأهالي على الخطبة التقليدية في الزواج، والتي لا يكون للأبناء دوراً كبيراً في صناعتها بل يقع العبء على لآباء والأمهات لاختيار الزوجة المناسبة لأبنائهم.
تقع أكلاف الخطبة والعرس والتجهيزات كاملة على عاتق العريس، وتقدم في وليمة الخطوبة التي تحضر من قبل أهل العروس والتي تحضر خلالها الهريسة التدمرية والمبرومة بالفستق ومناسف الأرز واللحم، وبعد إلباس الرجل عروسه ما اشترى لها من مصاغ تقدم الهدايا من قبل الحاضرين وتتفق العائلتان على المهر بشهادة الحضور ويعقد القران الذي يحفر على “دفتر نحاسي حتى لا يمحى”، تقول غيداء “من نسب نشب” أي أن عائلة جديدة ومجداً جديداً قد تم في هذه الليلة.
تبدأ مراسم تحضير الجهاز للعروس بعد انتهاء مراسم الخطبة “يحضر جهاز العروس، يكون كله شغل على اليد من بياضات مطرزة وشراشف ومخدات وفساتين الزفاف بألوانها الزاهية وتصميمات مختلفة، بالإضافة لعفش كامل مكون من مد كبير للنوم من صوف الغنم يغسلوه ويغنوا عليه”.
وفي يوم الحنة أي قبل يوم الزفاف يخلط أهل العريس الحنة ويزينوها بالشمع والورد وبرفقة الحضور يذهبون لبيت العروس ليحنوا كفيها ترافقهم الأغاني الشعبية كـ “فتت على بيتهم عرقان تا اتهوى/ طلعت من عندهم بالنار متكوى/ عتبي على ريمتي هالقاعدة جوى/ هالقاعدة على طبق تفتل شعيرية، ويا حاط المال لا تندم على مالك ياريتها جوهرة وتغل في دارك”. وفي يوم الزفاف “تحضر باقة ورد من الياسمين والجوري للعروس”، تقول رغداء بحسرة “كل شيء تغير بعد تهجيرنا من تدمر أصبحت العروس تذهب تهريب إلى تركيا تقطع وديان وجبال لتسافر إلى دول أوروبا حتى تصل لعند العريس”.
“في حماه تفصل المهر النساء المهر، وفي يوم الخطبة تقيم عائلة العروس مأدبة كتب الكتاب للحضور، ولا يلبس الذهب للعروس إلا بعد أسبوع بدعوة على وليمة من أهل العريس لأهل العروس، فتلبس العروس الذهب ببيت أهل العريس، وقبل الزفاف بأسبوع أثناء مد منزل العروسين وترتيب ملابسهما يعزم الأهل بعض الأقارب ويرتبوا المنزل بحضور المدعوين، وبعد الانتهاء يقيم أهل العريس وليمة للحضور” تشرح سلمى فتاة من إدلب تزوجت شاباً من مدينة حماه اختلاف عادات الزواج بين المدينتين فـ “هذه العادات كلها غير موجودة لدينا في إدلب، حتى طريقة تحضير الطعام مختلفة وأصبحت أتعلم طريقتهم لأن زوجي لم يحب طريقة طهونا، فأستفسر منه أو أحد أقاربه عن الطريقة وأحضر الوجبات”.
يتحدث زوج سلمى لهجة أقرب إلى “الشامية” على حدّ قولها، وهي مألوفة بالنسبة لديها سوى بعض الكلمات التي يسعفها بشرحها عند الحاجة.
“أبو عبد الرحمن” من منطقة الميادين بريف مدينة دير الزور والذي تزوج مؤخراً بفتاة من إدلب يجد أن عادات الزواج مختلفة، فلديهم الخطبة لا يجب أن تطول لأكثر من أسبوعين بعكس محافظة إدلب، والمهر لديهم يختلف بحسب وضع العائلة المادي وحسب عادات سكان الميادين، بينما يقع على عاتق العريس جميع الأكلاف المادية من المهر واللباس والحلويات والذهب، ونادراً ما يسكن يتزوج الشاب في منزل خاص به، إذ يجب عليه الزواج في بيت العائلة لفترة من الزمن.
يجبر أبو عبد الرحمن نفسه على الأكل بـ “الملعقة”، هو يستسيغ الطعام بيديه كما يقول، وتغيب في إدلب معظم “الأكلات” التي اعتادها في مدينته، إلّا أنه أحب (عجة البطاطا) لخلوها من البهارات التي لا يحب طعمها وتكثر في المطبخ الإدلبي.
من جهتها تقول زوجته إيمان من ريف إدلب “أصبح زوجي يعلمني طريقة عيشهم بدء من الطعام وحتى معنى بعض الكلام، وبحال حدوث أي خلاف سببه سوء فهم لمعنى إحدى الكلمات نحل الموضوع فوراً، فمثلاً نحن نقول عن الطفل (عجي) بلهجتهم تعني اليتيم والكثير من الكلمات والأسماء المختلفة عنا، فكلامهم أثقل بالنطق منا نحن نقول (بيت جدي) لكنهم يقولوا (عمامي وخوالي) وللجدة ينادوا (حبابة) والأطفال (جهال) وعن البستان (كاع) وغيرها من الكلمات التي بدأت أفهمها”.
أما “روعة” من جبل الزاوية بريف إدلب والتي خرجت منذ اندلاع الثورة بسبب القصف المستمر على قريتها إلى بيت أختها بمنطقة الحفة في اللاذقية وتزوجت هناك فتقول “هناك اختلاف بعادات الزواج بين معظم البيئات السورية ففي الحفة تكون تحضيرات الخطبة كلها على العروس وحتى لباسها والضيافة عكسنا تماماً، ويكون على الخاطب الذهب الذي سيلبسه لعروسه، أما عن الجهاز فالعروس تجهز نفسها بنفسها من ملابس وعلى العريس فرش المنزل وبحال نقص شيء يشتريه أهل العروس كهدية تخرج معها يوم الزفاف، ويكون العرس ضمن صالة خاصة للأفراح لا يقدم فيها الطعام إلا من يشاء ويقدم قالب كبير من الكاتو يقطعه العروسان ويقدم للحضور وبحال أراد أهل العريس تقديم وجبة من الطعام يكون جاهزاً من المطعم إما وجبة أوزي أو صفيحة، وبعد انتهاء الزفاف لا يخرج العروسان ولا يأتي لزيارتهما أحد لمدة أسبوع كامل”.
وجبات الطعام في ريف اللاذقية مشابهة لوجبات إدلب مثل البازلاء والملوخية والفريكة والمقلوبة والمحاشي، واللهجة مفهومة بالنسبة إليها إلّا أنهم يتكلمون ببطء مع “مطة في الكلمات”، على حد قولها.
“المصاهرة” في إدلب اندماج في العادات واللهجات والأطعمة
فاطمة حاج موسىتحب غادة طبق “المليحي” الشهير في درعا بعد تعلمها كيفية صناعته من أخت زوجها، إذ يغيب هذا الطبق “المكون من اللحم والرغل واللبن الجامد والسمن العربي” عن قائمة ربات المنازل في إدلب، تقول إن المليحي الذي صنعته أعجب زوجها، وبالمقابل صنعت له “الملوخية” التي قال إنه لم يأكلها سابقاً وأحبها بدوره.