مرّت ست سنوات على ارتكاب قوات الأسد لـ مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، والتي راح ضحيتها 1127 شهيداً، لم تكن تلك الضربة الكيماوية الوحيدة، إذ قام النظام السوري وعلى مدار السنوات الثمانية للثورة بـ 217 ضربة استخدم فيها السلاح الكيماوي، دون محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم الذين تملصوا من العقاب، ولم تتم محاسبتهم في المحاكم الدولية.
سبق مجزرة الكيماوي في الغوطة، في 21 آب 2013، وتلاها عشرات الضربات الكيماوية، وما تزال الإدانات مستمرة دون أن تكون هناك أي خطواتٍ جادةٍ لعقاب الأسد على جرائمه، ففي الأسبوع الماضي توعدت الولايات المتحدة الأمريكية بمحاسبة النظام على استخدامه الأسلحة الكيماوية ضد السوريين، وأنها ستستعمل جميع الأدوات المتوفرة لها لمنع أي استخدام للسلاح الكيماوي مستقبلاً.
وارتكبت قوات الأسد الهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية في 2013، رغم تهديد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عام 2012، بضرورة عدم انتهاك “الخطوط الحمر”، ليخرج أوباما عقب الهجمة مهدداً بتوجيه ضربةٍ عسكريةٍ كعقاب للأسد على فعلته، لكنه سرعان ما تراجع عن ذلك، بعد أن اتفق مع روسيا على إزالة وتدمير ترسانة الأسلحة الكيمياوية التي يملكها النظام بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي.
ونص قرار مجلس الأمن رقم 2118 الصادر عام 2013 وتحت الفصل السابع، على استخدام القوة العسكرية في حال استعمل الأسد أو صنع أو نقل الأسلحة الكيماوية، وطالب بنزعها أو تدميرها، ووافق النظام على تدمير أسلحته الكيماوية في 2013، وأعلنت منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” في حزيران 2014، عن نقل آخر حمولة من ترسانة النظام الكيماوية البالغة 1300 طناً.
رغم ادعاء الأسد بتدمير ترسانته الكيماوية، إلا أنه استمر في ارتكاب المجازر الكيماوية، حيث وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير صدر عنها، 217 هجمةً بأسلحة كيماوية في سوريا، مشيرةً الى أن النظام استخدم الغازات السامة 33 مرة قبل قرار مجلس الأمن 2013، و184 مرة منذ صدور القرار وحتى 21 آب 2018.
وقال رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية أنور البني إن “لجان التحقيق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية والتي تم تشكيلها عقب الهجوم الكيماوي على الغوطة، أثبتت بشكلٍ قاطع أن السلاح الكيماوي استُخدم في سوريا، لكن صلاحياتها كانت لا تسمح لها بتحديد الجهة المسؤولة عن استخدام الأسلحة الكيماوية، لكن في العام الماضي تم تعديل مهمة لجنة التحقيق وأصبح من مهامها تحديد من المسؤول، وبالتالي بدأت تحقيقاتها منذ أربعة أشهر والتي تسير بشكل جيد لتحديد المجرمين والعمل على محاسبتهم”.
وأضاف البني لموقع فوكس حلب، أن “هناك أدلةً كافيةً لإدانة النظام السوري، لكن المشكلة ليس في وجود الأدلة من عدمه، وإنما المشكلة في الجهة التي ستأخذ تلك الأدلة بعين الاعتبار وتقوم بمحاكمة الأسد ومحاسبته، وهي محكمة الجنايات الدولية المغلقة أمام الملف السوري، باعتبار سوريا ليست عضواً في هذه المحكمة، إضافة للدعم الروسي الذي حال وعبر استخدام حق الفيتو دون إحالة ملف سوريا إلى المحكمة أربع مرات متتالية، وبالتالي باتت محاسبة الأسد رهن الموقف الروسي”.
يقول البني إن “هناك إدانة أخلاقية وسياسية من كل العالم ضد الأسد، والكل يعلم أنه استعمل السلاح الكيماوي، لكن تلك الإدانات لن يكون لها وزن دون قرار قضائي” ولذلك يرى أنه من الضرورة “الضغط بشكل أكبر على المجتمع الدولي، والتركيز على قضية استخدام النظام السلاح الكيماوي، علماً أن العينات التي تدينه متوفرة، إضافةً إلى أنه في حال كان هناك تعاون دولي، فيمكن الوصول إلى الرادارات ومعرفة مسار الطائرات التي نفذت الهجمات الكيماوية على المناطق المحررة”.
كيف يطمس الأسد جرائمه؟
يعمل نظام الأسد على تطوير الأسلحة الكيماوية واستخدامها والتهرب من المحاسبة الدولية، وفي هذا الإطار قال رئيس تجمع المحامين السوريين الأحرار غزوان قرنفل إن “حافظ الأسد حاول التملّص من الالتزام باتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية الموقّعة بين الدول (باستثناء سوريا وخمس دول أخرى) عام 1993، كون تلك الاتفاقية تلزمه بتدمير مخزونه الكيماوي، وحاول التغطية على هذا التملّص بتوقيعه على بروتوكول جنيف الصادر عام 1925 والذي يحظر استخدام السلاح الكيماوي”.
وأضاف قرنفل لموقع فوكس حلب أن “النظام السوري أُرغم بعد ارتكابه جريمة الكيماوي في الغوطة 2013، على التوقيع على اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية ليتجنب الغضب الدولي وأي ضربة عسكرية أمريكية ضده، وادّعى تسليم مخزونه من هذا السلاح”، مؤكداً أن “ما جُمع وحُفظ من أدلة متعلقة باستخدام النظام للسلاح الكيماوي، يكفي تماماً لتوجيه اتهام قاطع للنظام بهذه الجرائم ومحاسبته، وهذا ما أيدته عدة تقارير حقوقية لكبريات المنظمات الحقوقية المستقلة، وكذلك تقارير فرق التحقيق الدولية المختصة، وبالتالي يمكن محاسبة الأسد إن توفرت الإرادة لذلك، لكن الواضح أن السياسة والمصالح الدولية، هي ما تحول دون مساءلة النظام عن هذه الجرائم”.
ويرى قرنفل أنه “وفي حال تم إحالة ملف الأسد الكيماوي لمحكمة الجنايات الدولية، أو تم إنشاء محكمة دولية خاصة للفصل في الجرائم المرتكبة في سوريا، فستتم حينها محاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وسيُمضي القتلة بقية أعمارهم في السجون، فجرائم الكيماوي لا تسقط بالتقادم مهما طال الزمن وفق القانون الدولي”.
وعمل الأسد جاهداً على استعادة السيطرة على المدن والبلدات التي استعمل فيها السلاح الكيماوي، وكان أول هجوم كيماوي للنظام على حي البياضة بمدينة حمص في 2012، ثم تلاه هجوم ثانٍ على خان العسل غربي حلب في آذار 2013، لكن النظام اتهم حينها فصائل المعارضة بمسؤوليتها عن الهجوم، ليأتي بعده الهجوم الكيماوي الأعنف على الغوطة الشرقية في آب 2013.
رغم اعتراف الأسد بتدمير كل ترسانته الكيماوية عقب مجزرة الغوطة، إلا أنه خدع العالم واستمر في تنفيذ الهجمات بالسلاح الكيماوي، والتي كان أبرزها على خان شيخون ودوما، ولكي يخفي آثار تلك الجرائم تمكن النظام من السيطرة على كل المناطق التي استخدم فيها الأسلحة الكيماوية وآخرها كان خان شيخون، ولم يبقَ خارج سيطرته سوى بلدة خان العسل.
وذكر تقرير لوكالة رويترز، أن النظام السوري خدع المجتمع الدولي، حيث كان المخزون الكيماوي لدى الأسد يبلغ ثلاثة آلاف طن، سلّم منها للجنة التحقيق 1300 طن، وهو الرقم الذي صرح به، وبقي بحوزته 1700 طن، مشيرةً الى أن كوريا الشمالية وروسيا والصين وشركات خاصة بريطانية وألمانية، تزود الأسد منذ سنوات بالمواد الأولية لتصنيع السلاح الكيماوي.
وأفاد الصحفي غياث الذهبي “في كل منطقة يدخلها النظام كان يعمل على انتشال جثث ضحايا الكيماوي وإخفائها واعتقال كل شهود العيان، فعقب سيطرة الأسد على كامل الغوطة في نيسان 2018، اعتقل كل شهود العيان على المجرزة المروعة في 2013، ولاسيما الإعلاميين المسؤولين عن توثيق جريمة الكيماوي، وأجبر العديد من الأطباء على الاعتراف أمام المحكمة الدولية أن المجزرة كانت مجرد تمثيلية من صنع المعارضة، فضلاً عن قيام النظام بنبش الكثير من القبور التي تحوي جثث ضحايا الهجوم الكيماوي ولاسيما مقبرة الشهداء في زملكا، ونقل تلك الجثث الى مكانٍ مجهول”.
خان شيخون شهدت ثاني أعنف هجوم للأسد بالكيماوي في سوريا، لذلك عمد الأخير جاهداً للسيطرة عليها، وتمكن في 21 أب الجاري من دخول المدينة، ما أثار التخوف من لجوئه لطمس معالم الجريمة، التي أسفرت عن مقتل 91 شخصاً، بينهم 32 طفلًا و23 سيدة، بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
بدوره قال حسين كيّال أحد شهود العيان على مجزرة خان شيخون إن “النظام خطط للسيطرة على خان شيخون، كي يخفي كل آثار جريمة الكيماوي، وليس من المستبعد أن يقوم بنبش مقبرة ضحايا المجزرة، والتي تتواجد في الجهة الغربية من المدينة، كي يقطع الطريق أمام أي محاولات لإدانته وإثبات أدلة ضده”.
وتخوّف الحسين من خلق سيناريو لقصة مختلقة في خان شيخون يشبه تلك لتي حدثت في أعقاب سيطرته على الغوطة، فـ “بعد سيطرة الأسد على خان شيخون عاد إليها بعض الأهالي الموالين الذين كانوا يتوجهون لمناطق النظام سابقاً، وبالتالي يمكن أن يعتمد الأخير عليهم في تقديم شهادات مزورة يُنكرون من خلالها حدوث أي مجزرة كيماوية في نيسان 2017، وأن الصور التي تم نشرها مجرد تمثيلية من المعارضة”.
واعترف الإعلامي الموالي للنظام “إياد الحسين”، بالهدف الرئيسي وراء تقدم قوات الأسد وحلفائه باتجاه مدينة خان شيخون، مؤكداً أن الهدف هو “إزالة أدلة الهجوم الكيماوي، وذلك في معرض رده على عدد من التعليقات على موقع التواصل “فيسبوك” حول الوضع في خان شيخون.
شهود يستذكرون أوجاعهم
“ما تزال مشاهد الجثث الملقاة على الأرصفة وفي المشافي الميدانية لا تفارق مخيلتي، أطفالٌ تحسبهم نيام، لكنهم في الحقيقة شهداء بلا دماء”، هكذا يصف الناشط ليث العبد الله أحد شهود العيان على مجزرة الكيماوي في الغوطة، فظاعة المشهد ليلة الحادي والعشرين من آب 2013، والتي ارتكب فيها الأسد مجزرةً مروعةً.
وأضاف ليث “في تمام الساعة 2:31 فجراً أطلقت قوات النظام المتمركزة في اللواء 155 بمنطقة القلمون عدة صواريخ، على بلدات عين ترما وزملكا وعربين، حيث سمعنا أصوات ارتطام تلك الصواريخ في الأرض دون صدور صوت انفجار، فظننا للوهلة الأولى أنها لم تنفجر، لكن وبعد دقائق بدأنا نشتم روائح كريهة، وبدأ الأشخاص يتساقطون أرضاً، وأصوات سيارات الإسعاف وتكبيرات المساجد تدوّي في المكان”.
يقول ليث “خرجت من المنزل مسرعاً فوجدت أطفالاً مستلقين على الأرض وأطرافهم ترتطم بها وكأنهم أسماكٌ خرجت من الماء، فحملت أحدهم وتوجهت لأقرب مشفى، لم يكن أحد يدري ما حصل، لكن حين زادت أعداد المصابين، ولاحظ الأطباء الرجفان والزبد والعيون الشاخصة عليهم، علموا حينها أنها علامات قصفٍ بالسلاح الكيماوي، لتتعالى الأصوات مناديةً بضرورة أخذ الحيطة والحذر في التعامل مع المصابين”.
وأشار ليث إلى أن “الأهالي لم يكن لديهم أي دراية بكيفية التعامل مع ذلك الهجوم كونه الأول الذي يطال الغوطة، وهو ما تسبّب في اختناق الكثير من السكان بما فيهم المسعفون، لدرجة أن المشافي المتواجدة في المناطق التي طالها القصف اكتظت بالمصابين، ليتم نقل الكثير منهم لمناطق أخرى ولاسيما دوما، حتى أن هناك من كان يتم إجراء الإسعافات الأولية له في المساجد والأقبية والمدارس، فضلاً عن عدم توفر الأدوية والأجهزة المخصصة لعلاج حالات الإصابة بالغازات السامة، لذلك كان يتم اللجوء لرش المياه الباردة، واستعمال أجهزة الربو”.
الذكريات المفجعة مازالت عالقة كذلك في أذهان سكان خان شيخون، عبد الحميد اليوسف كان أكبر الخاسرين في تلك المجزرة، يروي فاجعته لفوكس حلب قائلاً “رغم مضي أكثر من عامين على تلك المجزرة الفظيعة، فإن الذكريات المؤلمة لا تفارق مخيلتي دقيقةً واحدةً، لقد فقدت أغلى ما أملك، زوجتي دلال وطفليّ التوأم (أحمد وآية)، إضافةً إلى عشرين آخرين من أهلي وأقربائي، وأكثر ما يؤلمني لحظة حملي جثتي أطفالي ودفنهم بيديّ”.
ويسرد عبد الحميد تفاصيل مجزرة خان شيخون “تعرضت المدينة لقصف عنيف في الساعة السادسة والنصف صباحاً يوم الرابع من نيسان 2017، وعقب ذلك بدأت الروائح الكريهة بالانبعاث، فطلبت من زوجتي أن تصطحب أطفالنا إلى بيت أهلها، بينما أقوم بإسعاف بعض أقربائي المصابين، ومن ثم توجهت إلى بيت أهلي، لأتفاجئ بأخوتي ياسر وعبد الكريم وأطفالهم وزوجاتهم مستلقين على الأرض وقد فارقوا الحياة بعد أن ماتوا اختناقاً، وفجأة فقدت الوعي بعد أن تأثرت بالغازات السامة”.
وتابع عبد الحميد “بعد أربع ساعات من بقائي في المشفى عدت للوعي، وتوجهت مسرعاً لمنزل أهل زوجتي، لأتلقى صدمةً قصمت ظهري، حين علمت بوفاة زوجتي وطفليّ التوأم”، وبعد ساعات من الأسى والدموع، أخذ عبد الحميد اليوسف طفليه وحملهما كالقابض على الجمر، في صورةٍ حرقت قلوب العالم على مواقع التواصل الاجتماعي، ومشى إلى المقبرة ليدفنهما إلى جانب زوجته وأخويه الاثنين وباقي أقربائه.
يشار إلى أن الهجمات الكيماوية التي شنها النظام على مختلف المناطق السورية، تسبّبت بمقتل ما لا يقل عن 1461 شخصاً يتوزعون إلى 1397 مدنياً، بينهم 185 طفلاً، و252 سيدة، و57 من مقاتلي المعارضة، وسبعة أسرى من عناصر النظام كانوا في أحد سجون المعارضة، كما أُصيبَ ما لا يقل عن 9757 شخصاً.