في رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني يجسد الكاتب الآثار المريعة التي خلفتها النكبة على الحياة الفلسطينية، من خلال تجسيده لثلاثة أشخاص حطّ بهم المقام في العراق قبل أن تلتقي أهدافهم بالوصول إلى الكويت لتأمين بعض حياة يرجونها، قليل من الأمان ولقمة العيش، إلّا أنه أبقى السؤال معلقاً منذ عام 1963، بالرغم من كافة التحليلات والإسقاطات التي أضيء بها على الرواية التي تحولت إلى فيلم فيما بعد، لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟
بات باستطاعتنا أن نعيش أحداث الرواية في سوريا، ليس على الورق هذه المرة، بل من خلال مقاربة بسيطة لتسع سنوات عاشها السوريون خلال ثورتهم، مات فيها مئات الآلاف من المدنيين، وعبَر أضعافهم إلى بلدان اللجوء بكافة السبل برّاً وبحراً وعلى متن الطائرات وأمام أبواب القنصليات والسفارات، واعتقل منهم مئات الآلاف أيضاً، أما من تبقى فـ نازح يطرق جدران الحياة كي لا يستسلم للموت، بعضهم
ما يزال يحمل بندقيته أملاً في نصر يراه يقيناً، أو موت ليس بخيار سيءٍ، إن كان لا بدّ منه، فهو مريح وآمن إن كان بصاروخ أو شظية، أكثر بمئات المرات من مصير يشبه أبطال رواية كنفاني الذين ألقيت جثثهم في القمامة، اختناقاً وحرقاً تحت أشعة الشمس في الطريق الذي يشبه جحيم القيامة.
لم يكن هناك طريق آخر للهروب من نقاط التفتيش الثلاثة على الحدود العراقية الكويتية عبر الصحراء، سوى الاختباء داخل خزان فارغ فوق سيارة قديمة، نجحوا في النقطتين الأوليتين، وبقيت الأخيرة التي مثلت لهم كوة النجاة كما وعدهم “أبو الخيزران” سائق الحافلة، إن هم صمدوا لسبعة دقائق أخرى، قبل أن تنتهي معاناتهم ويصلون إلى وجهتهم.
نسيهم أبو الخيزران وهو يستمع إلى حديث موظف نقطة التفتيش الأخيرة عن الراقصة العراقية كوكب، لتمتد الدقائق السبعة إلى ما يزيد عن نصف ساعة كانت كفيلة بموت ثلاثتهم، عندما فتح الخزان ورأى مشهد موتهم، يقرر بسرعة رميهم على كومة قمامة بعد أن يجردهم من كل ما يحملونه. يلومهم وهو يحرك الجثث قائلاً “لماذا لم تدقوا جدران الخزان، لماذا لم تصرخوا؟
من قسوة النزوح إلى ظلام الخزان ثم إلى الموت خنقاً وبعدها الدفن في ظلمات القبر يسرد كنفاني لنا حكاية الحياة الفلسطينية، ليترك لنا الباب موارباً لنسأل أنفسنا، ما الذي كان سيحدث لو أنهم طرقوا الجدران الحديدية، من مات أولاً منهم، ما الذي شعر به آخر المتبقين على قيد الحياة، كيف يحولنا الخوف من الحياة إلى موتى، هل علينا أن نصمت دائماً؟
في إدلب اليوم أكثر من مليون نازح جديد، يعيشون تغريبتهم السورية، فيما يلاحقهم الموت إلى كل مكان يذهبون إليه، ولا إدلب جديدة ينجون إليها، أما نقاط التفتيش فباتت تتعامل بالرصاص الحي، خلف الخزان هناك قوات الأسد الذين لن يألون جهداً بإذلال من تبقى إن حاول العودة، هذا إن كتب له الحياة خارج جدران المعتقل الكبير أو التصفية المباشرة.
تحت أشجار الزيتون، على الشاحنات، في الخيام التي نفدت طاقتها الاستيعابية ينتظر الجميع انتهاء حديث رجل التفتيش مع أبي الخيزران عن الراقصة، ويسقط في كل ثانية عشرات الأطفال والنساء والعجائز موتى من القهر والاختناق، ومع كل شخص يسقط تنكشف بوضوح صورة الضامنين وأصدقاء الشعب السوري والداعمين والمصالح والتفاهمات الدولية.
ينسى أبو الخيزران، وهو يستمع بلهفة إلى الرجل الذي سيمر دائماً من أمامه يحمل جثثاً أو ناجين آخرين في الطريق الذي اتخذه مهنة تدر عليه آلاف النقود، الرجال الثلاثة الذين تكفل بإيصالهم، في الوقت الذي يُنسى شعب بأكمله ويترك للموت أمام اجتماعات كرنفالية يسودها المزاح وإرضاء شرطيّي العالم أمريكا وروسيا، يضحك الضامن لنكاتهم السمجة، ويتساءل عمن سيدفع ثمن الآيس كريم في معرض الطيران الذي جُرب على أجساد أطفال سوريا ومنازلهم، وكانت نتائجه باهرة بحق.
لا خلاف إذن على ما يحدث، الاتفاق قائم على أجرة السائق ورشوة الشرطي وموت من في الخزان، دون أن يسمح لهم بإصدار أي صوت خوفاً من إعادتهم وفشل المحاولة، أما من سيكتب له النجاة فسيموت في رحلة أخرى أو أستانا جديدة، وفي أفضل الأحوال ترمى جثته على القمامة هرباً من تحمل المسؤولية.
كانت الثورة بالنسبة للسوريين خزان الخلاص من الظلم والعبودية إلى الحرية، صعدوا إلى الخزان وكلهم أملٌ بالوصول إلى وجهة الخلاص، وإن طالت رحلة المسير واشتدّ لهيب الشمس عليهم، فلن يستسلموا للموت كما استسلم أبطال الرواية؛ بل سيطرقون الجدران والأبواب والنوافذ ويصرخون بأعلى أصواتهم، كما فعلوا منذ تسع سنين.
قرعت جدران الخزان عند أول مظاهرة سلمية خرجت في شوارع المحافظات، وصدحت حناجرهم بالحرية والثورة، ولم تسكتهم نيران البنادق الموجهة إلى صدورهم العارية، ولا الاعتقال التعسفي الذي زج بزهرة شبابهم في غياهب السجون والمعتقلات.
طرقوا الجدران بالسلاح والأرواح عندما تحولت الثورة إلى مسلحة لانتزاع الحق، غير أنّ سائق الشاحنة قد أُصيبَ بصممٍ تام، وفقدانٍ للذاكرة ولم يتذكّر الحالمين بالحرية داخل خزانه، وهم يصارعون الموت، فلا هم أخفضوا ضجيجهم وخنعوا للموت، ولا هوَ تذكرهم وأوصلهم إلى برّ الأمان، وما يزال الصراع قائماً ما دمنا قادرين على طرق الجدار.
منيرة بالوش