تترك عمالة الأطفال بمفهومها السلبي أثرها في الحياة الاجتماعية لأعداد كبيرة من العائلات السورية التي أجبرت بفعل الحرب على النزوح إلى مناطق أكثر أمناً في المناطق الشمالية من سوريا أو إلى المدن الرئيسية للبحث عن لقمة العيش كخيار لا بدّ منه، وساهمت الظروف الاقتصادية السيئة التي رافقت سنوات الحرب وكذلك فقدان كثير من الأطفال لآبائهم نتيجة الموت أو الاعتقال أو الهجرة وارتفاع معدّلات الطلاق في تعزيز هذه الظاهرة، وحرمان الأطفال من بيئة مستقرة للتعلم والتفكير بمستقبلهم ليتحولوا إلى سوق العمل وسط استغلال من أصحاب الورش والمعامل لهم باعتبارهم بديلاً رخيصاً عن العمال البالغين، وليمتهن قسم ليس بقليل منهم أعمالاً تهدّد سلامتهم وصحتهم العضوية والنفسية.
تلقي الحرب بثقلها على الأطفال في هذه المنطقة الذين سرقت طفولتهم في غياب الرقابة والحماية، كيفما اتجهت في شوارع المدن والبلدات بالشمال السوري تجد ضحايا منهم يتشاركون في مختلف الأعمال وبشتى المجالات، صبية في محال تجارية يمتهنون التنظيف وحمل طرود المواد الثقيلة، باعة جوالون في الشوارع يحملون ما يبيعونه على أكتافهم الصغيرة بوجوه يعلوها الإرهاق والتعب وانعدام الصحة والنظافة، ماسحو أحذية يتوزعون على الأرصفة وفي مختلف الظروف المناخية، “حويصون” في المطاعم وورش الأحذية والخياطة، وعمّال صغار في مهن تتطلب جهداً ومشقة كبيرين، لا تتناسب مع أعمارهم وأيديهم الصغيرة، في ورش الحدادة ومعامل المنطقة الصناعية وورش تصليح السيارات، يضاف إلى ذلك ما تسمعه حين دخولك على أي من هذه المحلات من امتهان لفظي وأحياناً جسدي لهؤلاء الأطفال من قبل أرباب عملهم.
بين أكوام من الحديد المتناثرة هنا وهناك، يخرج الطفل مروان (14 سنة) وهو يحمل قضيباً حديدياً يصعب على الكبار حمله، يقول إنه يعمل في ورشة الحدادة الإفرنجية منذ ثلاثة أعوام، وتبقى له سنة واحدة كي يختم المصلحة، بحسب تقديرات صاحب الورشة.
والحدادة الإفرنجية واحدة من المهن العضلية التي تمتاز بصعوبتها لاعتمادها على الجهد العضلي والقوة، كذلك الخطرة لاعتمادها على المعدات الكهربائية لقص وتليين الحديد وتحويره.
يشرح مروان قصة التحاقه بالعمل في هذه المهنة الخطرة يقول إنه هُجّر من مدينة حلب نهاية العام 2016، كان في العاشرة من عمره آنذاك، في الصف الرابع الابتدائي حين قُصفت مدرسته، وبمجرد وصوله إلى مدينة سرمدا (شمال إدلب) كان عليه ترك المدرسة والاتجاه للعمل لمساعدة والده (فصله نظام الأسد من عمله كموظف حكومي) على تحمل مصاريف الحياة وأعبائها المتزايدة في كل يوم.
“عملت ببيع الخبز في البداية”، يقول مروان، إضافة لأعمال أخرى وصفها بـ “البسيطة” قبل أن يختار له والده مهنة “الحدادة” التي تعتبر بوجهة نظر الأب “صنعة تؤمن حياته وتقيه الفقر والعوز”، بعد أن فُقد الأمل بإكمال تحصيله العلمي الذي كان هاجسه الدائم. يحب مروان المدرسة على حدّ قوله، ومنظر الطلبة الذاهبين إلى مدارسهم يشعره بالغيرة والحزن لما آلت إليه حياته بين الحديد والمطارق الثقيلة.
ليس ببعيد عن ورشة الحدادة في مدينة سرمدا، وعلى الشارع الرئيسي يتجمع عدد من الأطفال على نافذة واحدة من السيارات، يحملون “مماسح من الجلد والأقمشة” ودلاء من الماء لتنظيف زجاج السيارات، غير آبهين بما قد يصيبهم من مخاطر بسبب السيارات المسرعة، أو تعرضهم للإهانة من قبل السائقين الذين غالباً ما يمتعضون من هذه الظاهرة، بحسب الأطفال فإن تأمين القوت اليومي لهم ولعائلاتهم هو الأساس، غير ذلك هي تفاصيل غير مهمة، ويغيب عنهم أي ذكر “للمستقبل أو الدراسة أو الصحة”، أطفال بأعمار صغيرة، بعضهم لا يعرف (حقيقة عمره)، وتوحي وجوههم وقاماتهم القصيرة بأنهم لا يتجاوزون العاشرة، دون أي رعاية أو محاسبة من قبل الجهات المسؤولة.
تنظر أم ياسر وهي أمٌّ لخمسة أطفال أكبرهم في الثالثة عشر من عمره بعين الحسرة والحزن إلى أطفالها وهي تعدّ لهم الفطور وتهيئهم للخروج إلى العمل، كل منهم بحسب المهنة التي اختارها له والده، بحسب تعبيرها.
لا تبدو أم ياسر سعيدة بخيار زوجها، تقول إنها حاولت مراراً ثنيه عن قراره بإخراج أطفالهم من المدرسة وتوزيعهم في سوق العمل، وما سيؤدي ذلك من تبعات على نفسيتهم ومستقبلهم، إلّا أن محاولاتها باءت بالفشل، كان زوجها يختصر تبريره بمقولة “عيشني اليوم وموتني بكرا” التي اعتبرها قانوناً ينظم حياتهم الحالية.
“ياسر” ذو الثلاثة عشر عاماً يعمل في ورشة للألمنيوم، أما يزن (12 عاماً) فيعمل في مشغل للخياطة، في حين اختار لسامر (10 أعوام) عملا يناسب عمره (على حد قوله) وهو بائع وقود على الطريق!
يرى سامر في نفسه رجلاً كبيراً يستطيع أن يكون عوناً لوالده في تأمين مصروف المنزل مع أخويه، إذ يقول مبرراً عدم إكمال دراسته “جعلني والدي أترك المدرسة، لأنه لا يستطيع تأمين مصاريفي أنا وإخوتي، ودفع بي إلى هذا العمل، كي أساعده بالمصاريف، ولأتعلم من عملي هذا الحساب من خلال تعاملي مع الزبائن”.
بعض الأهالي حاولوا التوفيق بين تحصيل أطفالهم الدراسي وبين العمل الذي بات ضرورة لاستمرار الحياة، تقول أم علي إنها اضطرت إشراك أطفالها (تتراوح أعمارهم بين 11-17 عاماً) بالعمل معها في قطاف المحاصيل الزراعية الموسمية بعد وفاة زوجها وتركها دون معيل، إلّا أنها حافظت على وجودهم في مدارسهم أيضاً، فلا تصطحبهم معها إلّا خلال العطلة الصيفية أو عطلة نهاية الأسبوع.
يحظر القانون الدولي عمالة الأطفال، ويفرَّق بين كل من التشغيل الطوعي والجبري معتبراً أن النوعين يجب منعهما، في حال لم يتجاوز الطفل السن القانوني والذي يسمح له بالعمل، يقول المحامي والناشط الحقوقي عبد الناصر العمر حوشان الذي شرح لـ فوكس حلب حكم القانون الدولي حول مسألة حظر تشغيل الأطفال في العمل الجبريّ، أي تشغيل و توظيف الأطفال إكراهاً و إجباراً، أو فيما يُعرَف دوليّاً بالاستعباد و الاتِّجار بالبشر، و العمل لسداد الدين، أو استخدامهم في الأنشطة غير المشروعة مثل المشاركة في النزاعات المُسلَّحة و الأعمال الإباحيّة، أيضا تشغيل الأطفال دون الحَدّ الأدنى للسن، و هو العمل الذي يُمارسه الطفل و الذي يكون من شأنه إعاقة تعليمه و نُموّه التامّ، حيث أنّه لم يصل السنّ المُحدَّد للعمل، و الذي حَدَّده التشريع الوطنيّ وِفقاً للمعايير الدوليّة المُعترَف بها، و العمل الذي يُهدِّد صحّة الطفل (العمل الخَطِر)، و هو عمل الأطفال، في مجالٍ من شأنه الإضرار بصحّتهم النفسيّة أو الجسديّة أو الفكريّة، سواء كان السبب في هذا الضرر طبيعة العمل أو الظروف التي يتمّ فيها.
يرى “الحوشان” أن حل مشكلة عمالة الأطفال يحتاج إلى خطة شاملة تقوم على جمع البيانات والإحصائيات، وتحديد أنواع العمل ورقعة انتشار هذه الظاهرة، لتقدير كلفة حلها، وهذا يتطلب ميزانية، تفوق ميزانية المنظمات، أو المؤسسات الحقوقية، معتبراً أن أفضل وأقدر منظمة للقيام بهذا العمل، هي منظمة “اليونيسيف”، التي يمكنها معالجة هذه الظاهرة الخطيرة التي تترك آثاراً وانعكاسات سلبية على الأطفال، إذ يتطبع أغلب الأطفال، الذين يتم تشغيلهم في سن الطفولة، على الفوضى في الأسرة و المجتمع، نتيجة الإهمال من الأهل، أو من أرباب العمل، ما يؤدي إلى جعلهم عرضة للابتزاز المادي و الجنسي و الاستغلال بكافة أنواعه، و يحرم الأطفال من حقوقهم الطبيعية في التعليم و الحماية من المخاطر الجسدية و المعنوية.
ولا يقتصر انتشار ظاهرة عمالة الأطفال على الشمال السوري المحرر فحسب، إنما هي ظاهرة متفاقمة في العالم، وزادت نسبتها في عموم سوريا نظراً لظروف الحرب والفقر، إذ قدّر تقرير صادر عن اليونيسيف في اليوم العالمي لمكافحة عمل الأطفال (12 حزيران الماضي) عدد ضحايا عمالة الأطفال في العالم بـ 152 مليون طفل ما يقارب من نصفهم تتراوح أعمارهم بين 5-11 سنة، 42 مليون (28 ٪) أعمارهم ما بين 12-14 سنة؛ و37 مليونًا (24٪) أعمارهم بين 15 و17 عامًا.