إنّ من أجمل التجارب التي تقدمها لك القراءة، هي القراءة لكاتب ما للمرة الأولى. تشكلت علاقات صداقة بيني وبين الكثير من الكتّاب على مدار سنوات، كانت قراءتي الأولى لهم هي مفتاح علاقتنا، حتى وإن كان صاحب النص ميتاً منذ ما يقرب من خمسين عاماً في بعض الحالات. لديّ قائمة معقولة من الأصدقاء-الكتّاب تعمقت صداقتنا بعدد أعمالهم، بعضهم صاروا أصدقاء مقربين نلتقي أكثر من مرة في الشهر، وبالطبع كان هناك ضحايا انقطعت علاقتي بهم قبل أن تبدأ.
اليوم، أقرأ “مصطفى تاج الدين الموسى” لأول مرة، وقد أصبح صديقاً مقرباً منذ الأسطر الأولى.
أكتب لنفسي أولاً.. ثم يأتي القراء إذا شاءوا.
شدتني “الخوف في منتصف حقل واسع” منذ القصة الأولى، أدهشتني ذاتية الكاتب الطاغية على مسار القصة، قلت يكتب مصطفى تاج الدين من أجل نفسه أولاً، من أجل أن يتحرر من مشاعره اليومية التي تتنقل بين الخيبات العاطفية والهزائم السياسية والانتقال بين المدن. لا يهتم كثيراً بجرح مشاعر القارئ أو تغذية كآبته وكأنه يقول لنا “إذا كنت من هواة النوع تفضل وإلا فهذه الكتابة لي”.
بعد أن تندمج مع أسلوب الكاتب وتستمر بالقراءة يكافئك مباشرة بأن يقربك منه أكثر. يُعرفك على بعض أسماء حبيباته السابقات، أو يذكر لك ماذا يفعل مع أصدقائه المقربين في المقهى أو السكن. تشعر بالقرب أكثر عندما يفصح لك عن تصرفه عندما يقع في حب امرأة يراها في الشارع أو القطار. يعطيك مقابلاً سريعاً لقدرتك على التحمل فتُخلق الصداقة قبل أن تنتصف المجموعة.
الخيال بطلي الوحيد!
يحضر الخيال في كل القصص تقريباً كبطل أوحد يتحكم في مصائر الشخصيات ويلعب بها كطفل متهور. يسلب منها الحياة بأن يقتل الأصدقاء بتحوليهم إلى سجائر يدخنها بدم بارد، أو يقع في حب الجمادات فيرغب بالزواج من المدخنة التي تشعره بالدفء في الشتاء، أو تنقذه الفتاة المرسومة في لوحة من وحدته وتشاركه الفراش أو تنقلب الأفعى المرسومة لتقتله.
الاستخدام الأقصى للخيال عبّر عن مشاعر متضاربة داخل القصص. الوحدة والخوف وعشوائية العنف وكثافته تحضر في مشاهد متكررة ساعد الخيال في التأكيد عليها دون الشعور بالملل، وساهم في بعض الحالات بتخفيف وطأة هذه المشاعر لتشعر بأنك تشاهد فيلماً من الرسوم المتحركة يصبح فيه النهر إنساناً يقع في الحب ويتحول البطل إلى ذبابة ويحكي العصفور عن كرهه لجاره.
استمتعت بقراءة الكثير من القصص أكثر من مرة. مرة أولى أتلقى فيها صدمة الحبكة السريعة المكثفة ومرة ثانية كي أُخدع مرة أخرى وأتخيل نفسي مكان البطل فأجد نفسي أقرأ قصة “لقاءات عاطفية سرية” لأربع مرات متسائلاً عن طبيعة الحب بين الرجل والمدخنة، هل من الممكن أن تجعلني المدخنة سعيداً؟ هل تقع في حب رجال آخرين وتتركني؟
الآن أفكر في تحسين علاقتي بالجمادات التي أعيش معها، يعيش معي خيال الكاتب لأيام بعد القراءة فأخاف أن تخرج الرسومات من اللوحة في غرفة المعيشة وتأكلني إذا غضبت مني، وأصبحت متحفظاً مع وسادتي كي لا تفاجئني بإعلان حبها لي ونبدأ علاقة قد تنتهي بالفشل!
السياسة تتغذى على الرصاص وصور السيد الرئيس
تحضر السياسة في الكثير من القصص بأشكال مختلفة. لكن أبرز سماتها يكون في إيقاع الكتابة نفسه، السريع والمكثف، الذي أشعرني بأن الكاتب يعيش في مناخ حرب ويتأثر به بشكل مباشر. الكثير من الأبطال يُقتلوا إما برصاص قناص أو على حاجز عسكري كعقاب على فقدان بطاقة الهوية.
القصص لا تُغيب وحشية الحرب، كان ذلك من أذكى تعاملات الكاتب مع واقعه. تأتي القصص بالحرب.. تستدعيها وتحاول التعامل معها بطرق مختلفة أهمها الإنكار أو الهرب وصولاً للتواجد في الحياة بعد القتل على هيئة مخلوق جديد. لا يستهلك الكاتب نفسه في تغييب الحرب فيجعلها ذات حضور أساسي وحقيقي، لأن الحرب حقيقية ببساطة!
أكثر ما أحببته كان قصة بعنوان “تحت صورة السيّد الرئيس” قرأتها مرات عديدة، سخرت فيها مع الكاتب من الأسد الأب والابن، فصورة السيد الرئيس تفسد كل شيء حتى وتعكر كل الأمزجة، فعندما ينظر إليها المراهق يفشل في الوصول للانتشاء حتماً!
الخيال عند “تاج الدين الموسى” لا يفصلنا عن الواقع، هو يعيد إنتاجه بصورة فنتازية لتحمله ومحاولة التعايش معه. لا يتحداه
بل يحاول القفز عليه بطريقة تنتهي غالباً بالفشل في مرات عديدة. قد تساعدك سعة خيالك على تخطي أزماتك العاطفية وفقدانك للأصدقاء وقد تقدم لك عوناً إذا فكرت في الانتقام وتحويل حبيبتك السابقة إلى أي مخلوق آخر أو تحويل أعدائك إلى دخان. الخيال في صورته المحددة في هذه القصص كإعادة إنتاج للواقع بشكل آخر قد يتحمل معك أعباء الحرب وما تفرضه من واقع مرير متغير كل دقيقة. يدفع بنا الكاتب لرؤية حياتنا بشكل مختلف، يمسكنا من أيدينا لنضيف أو نحذف بعض الوقائع لجعلها محتملة.
الخيال قد ينقذك من الجنون وقد يكسبك بعض الأصدقاء الجدد كمصطفى تاج الدين الموسى.