حين تفْتُر أصابعك، وتشعر بشيء من الوهن وثقل في الكتف، وقشعريرة تبدأ من أسفل قدميك وحتى رأسك، لا يكون ذلك شعور متنام بالحنين إلى الوطن ولا حزناً على الذين ماتوا ويموتون كل يوم في بلادك، ولا قهراً من الخسارة أمام الاستراليون الذي كان سيجلب المتعة لرواد الفيس بوك لسنة أخرى على الأقل، فيما لو قدر لعارضة السومه الدخول في الدقيقة الأخيرة، أرجوكم أن تنتبهوا العارضة وليست المعارضة، فالميم هنا هي المعنية بالقشعريرة.
سالت نفسي ذلك السؤال الذي اختبأت خلفه منذ سنوات، هل يشعر الإنسان بالوطن من خلال الأشياء التافهة؟؟
راودني هذا السؤال للمرة الأولى حين كنت طالباً في مخيم حندرات في مدرسة تتبع لليونسكو، حينها كنت السوري الوحيد في المدرسة، وكان علي ان أدافع بطفولتي عن كل ما هو سوري “بدء من حزب البعث وانتهاء بطرد وعمالة ياسر عرفات”، كان علي أكثر من أقراني الفلسطينيين عبء القضيتين، السورية بوصفها قلب العروبة النابض، والفلسطينية بصفتها الجرح الذي لا يندمل، كنت كلما مررت بمدرسة سورية يرتفع علمها السوري فوق البناء مع نشيد حماة الديار، أشعر بالقشعريرة، وأصرخ في داخلي عهدنا “أن نتصدى للإمبريالية والرجعية ووووو……وصولاً إلى عصابة الإخوان المسلمون العميلة”، تلك تشبه ياسر عرفات، ولكن مع فارق بسيط، أننا في سوريا قبلنا بأنصار عرفات بيننا ولم نقبل بمن يمت بصلة للأخوان، فالردة أصعب من الكفر، ولذلك حرموا من حقهم حتى بالبعث، “الحزب اللبيس لكل طبقات الشعب”.
كنا في مدرستي ننشد صباحاً “منتصب القامة أمشي وبالأحمر كفناه”، وكانت نهاية شعارنا عاشت فلسطين حرة عربية، وينطلق الصراخ عاشت عاشت عاشت.
لو لم يحتل العدو الصهيوني فلسطين كانت ستعاني الآن من مفهوم عربية، وتسعى للانقسام إلى دويلات صغيرة بحسب عدوى القومية الذي بدأ يستشري في القرن الماضي، ما الداعي للقول بأنها عربية؟؟ ذلك سؤال آخر كنت أختبئ خلفه ولكنه لم يكن يثنيني عن القشعريرة والشعور بالوطنية، كلما تذكرت حرب تشرين التحريرية وأفتخر أني ولدت في ذات اليوم الذي قامت فيه الحركة التصحيحية، وأضحك بوصفي أحد منجزاتها، كان لدي اعتراض واحد فقط، لماذا لا تعطل المدارس في يوم ميلادي حتى لو كان يوم جمعة، فالتصحيح بحاجة إلى عمل طوعي رغماً عن طفولتك وحقك بالراحة.
المرة الثالثة التي شعرت فيها بتفاهة الوطنية، يوم كنت أتابع حلقات ستار أكاديمي وكان من بينهم سوري وددت لو “أقطع حذائي على رأسه”، في الوقت الذي كانت رسائل “سيرياتل” تحضّك على التصويت له مقابل 25 ليرة كي يخرج من لعنة “النومني”، إلى الآن لا أعرف معنى الكلمة ولكني حينها تمنيت لو أن السوريين صوتوا له رغم أني لم أفعل، المؤسف أنه بكى وهو يحمل العلم السوري وقتها، وأذكر مرة أني لعنت شركات الاتصالات كلها في سري طبعاً، لأنهم لم يفتحوا الرسائل المجانية لبرنامج سوبر ستار أسوة بالأردن لتختطف كرزون من رويدا عطية اللقب، وتبكينا نحن على شاشات التلفاز وهي تحمل العلم السوري.
في المدرسة الثانوية كان التدريب العسكري وتحية العلم همّاً تمنيت لو أني لم أدخله ضمن أمنياتي القديمة، ما الفائدة من “تدريب الفتوة، حلاقة الشعر، استارح، استاعد، صدرك لفوق، اعتز بنفسك، والشواطات القضية الأهم التي سترافقك من صف العاشر وحتى انهاء خدمتك الإلزامية”.
المرة الأخيرة التي شعرت فيها بالوطنية من خلال الأشياء التافهة، يوم سقطت مدينة حلب، لم يكن العلم “أبو نجمتين خضر” الذي رفع على أنقاض مدينتي وذاكرتي له مفعول القشعريرة القديم، ولم يكن لنشيد حماة الديار وموطني هذا الصمت العظيم والجلال، حينها عرفت أني لم أعد اشعر بالوطنية من خلال أشياء تافهة، فلا العلم ولا النشيد ولا الشعارات ولا الكتب ولا ذاكرة المدن ولا شوارعها ولا جيشها ولا أبطالها ولا أمواتها ولا شهداؤها من أثقل كاهلي اليوم، هي نوبة انفلونزا حادة من جعلتني أهذي، بحرارة مرتفعة.