على بسطة لا تتجاوز مساحتها متراً ونصف المتر تطالعك معدّات وأدوات يستخدمها “بركات أبو أحمد” في حرفته اليدوية. إبرة للرسم بالصمغ، أقماع تناسب حجم القوارير الزجاجية، بعض المفكات والزجاجات المزخرفة بأشكال وألوان جاذبة يرتبها بأناقة للفت انتباه المارة وجذبهم إلى عربته المزينة، بينما يجلس على حافة الحائط بالقرب من سور الحديقة برفقة عدد من الباعة المجتمعين على طرفي ساحة الساعة وسط مدينة إدلب.
“بركات أبو أحمد” أربعيني ورث المهنة من جده التدمري، يرسم بالرمال في القوارير الزجاجية، والرسم بالرمل فن انتشر في الكثير من المدن العربية الصحراوية، خاصة الأثرية والسياحية التي تكثر فيها المحال التجارية المختصة ببيع المنتجات التراثية، كزجاجات الرمل التي اشتهرت بها مدينة تدمر، وهو أقرب ما يكون إلى الفن التشكيلي، أول من عرفه الأنباط بعد اكتشافهم للساعة الرملية لينتشر بعدها من دولة إلى أخرى.
يضيف بركات إلى القوارير، بعدته البسيطة المتواجدة معه، ألواناً وزخارف قبل أن يبيعها، هي مهنته التي يؤمن من خلالها لقمة عيشه ويساعد عائلته المهجرة بمخيم الأزرق على الحدود الأردنية بعد أن تعرض منزلهم للدمار، على حد قوله.
يستخدم بركات الرمل الملون لتشكيل ملامح معينة اكتسبها من بيئته التدمرية وتصويرها داخل القوارير الزجاجية، إضافة إلى الرسم وكتابة الشعر على حبات الأرز، وحفر الصناديق الخشبية وتطعيمها بالأصداف، كذلك تصميم قطع فنية وإكسسوارات من نواة التمر التدمري الكبيرة، يقول الرجل إنه كان يقوم بكل تلك الأعمال في محلّه الخاص بالمنطقة السياحية من سوق مدينة تدمر “كانت حرفة رائجة، وكنا نقدمها للسياح كتذكارات فنية يحملونها معهم إلى بلدانهم”.
يقتصر عمل بركات اليوم في إدلب على التشكيل بالرمل الملوّن، يقول إنه هجر باقي الأنواع من الفنون التي كان يمتهنها بعد أن أُجبر على التهجير، ويعزو ذلك لضعف الإمكانيات وعدم توافر الأدوات والمعدّات اللازمة.
يشتري “بركات” القوارير الزجاجية بأشكالها اللافتة من المحال التجارية في مدينة إدلب، أما الرمل الأصفر والصبغات فيتحصل عليها من محل لبيع الرمال يوجد بالمنطقة الصناعية في إدلب، يقول إنه لا يستطيع إيجاد طلبه في إدلب غالباً، وهو ما دفعه للتحايل على نقص المواد باستعمال الملح الأبيض الناعم وصبغه، قبل أن يبدأ وبحركات دقيقة بناء حبات الرمل داخل الزجاجة دون اختلاط الألوان، وبحسب الرسم وشكل الزجاجة التي يختارهما الزبون.
يجتمع المارة حول بركات لمشاهدته أثناء القيام بعمله “إن سكان المدينة يتجمعون حول هذا الفن غير المألوف عندهم، غالباً ما يدفعهم الحماس لاختيار واحدة من الرسومات وشرائها لتزيين منازلهم” بحسب بركات الذي قال إن أكثر طلبات الزبائن هي “للحروف الأولى من أسمائهم أو أماكن عملهم أو شعار المنظمات التي ينتمون إليها”
يحكي لنا بركات إن أحد المارة اختار وضع أسماء أطفاله وإخفائها داخل زجاجة الرمل، آخر طلب كتابة الحرف الأول من اسمه ملتصقاً باسم فتاة “ربما تكون حبيبته أو خطيبته”، فـ “الرمال أصبحت مخبأ للكثير من الكلمات، يرمز لها بالحروف وتعيش كذكرى داخل قارورة زجاجية لسنوات طويلة”، يقول الرجل “لن يفهم رمزية الحالة سوى من عاشها، لقد رأيت الابتسامة على وجهه بعد حصوله على كنزه المدفون في الرمال”، أما أطرف الطلبات فكانت لرجل أراد أن يرسم “تنكة” داخل زجاجة الرمل، يقول بركات وهو يبتسم “لعله واحد من تجار الزيت، رسمتها له وذهب سعيداً، فمهمتي إرضاء أذواق ورغبات الناس، والحصول على بعض النقود من خلال هذا العمل”.
(بركات) يمارس فن الرسم بالرمال على القوارير كمهنة؛ أما صديقه التدمري زاهر (خريج السياحة ويسكن في إدلب بعد التهجير) فيمارس الرسم على الرمال كهواية محببة تناسب مزاجه وعشقه للأعمال التراثية، يقول إنه ما يزال يجد صعوبة برسم الحوريات داخل القوارير الزجاجية، إلا أنه يرسم أشياء أخرى أحبّها علم الثورة، “رسمته في زجاجة ولكنها كسرت، وسأرسم غيره خلال الأيام القادمة”.